57 عامآ على إستقلال بلد المليون شهيد. الجزائر بين ثورة وحراك
سقوط الجزائر.. الهزيمة النكراء
محمد علال
“يا فرنسا قد مضى وقت العتاب
وطويناه كما يُطوى الكتاب
يا فرنسا إن ذا يوم الحساب
فاستعدي وخذي منا الجواب
إن في ثورتنا فصل الخطاب
وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر”.
أبيات لقصيدة من أقوى القصائد لشاعر الثورة الجزائرية الراحل مفدي زكريا، وهو مقطع هام جدا من النشيد الوطني الجزائري الذي لطالما أثار حفيظة الفرنسيين بعد إعلان استقلال الجزائر يوم 5 يوليو/تموز 1962، والذي يُبرز وحشية المستعمر وهشاشة واحدة من أكبر القوى العسكرية في التاريخ الحديث.
قبل نحو قرنين من الزمن وتحديدا عام 1830، كان تاريخ 5 يوليو/تموز يشكل للشعب الجزائري عنوانا للهزيمة والخذلان، وذلك بحكم الروايات التاريخية التي تحكي كيف قام الجنرال الفرنسي “دي بورمن” بالإنزال التاريخي لقوات “جيش أفريقيا الفرنسي” في ميناء سيدي فرج بالجزائر في 14 يونيو/حزيران 1830.
سقطت مدينة الجزائر في 5 يوليو/تموز 1830، وذلك بعدما قام داي الجزائر “الداي حسين” بمقاومة شعبية لم تستمر أكثر من 21 يوما، لتنهي في ذلك اليوم أسطورة مدينة كانت تُوصف بالقلعة الحصينة، وكان يُضرب بها المثل في القوة، وذلك منذ أن فشلت البحرية الإسبانية بقيادة كارلوس الخامس في اقتحامها عام 1541.
الهزيمة النكراء التي أحاقتها قوات الجيش الفرنسي بأسطول الداي في شهر يوليو/تموز تحولت إلى حكاية طويلة من العذاب والقهر في حياة الشعب، والتي رسمت فيما بعد ملامح وحشية المستعمر القديم، فلم يكن هناك أحد يتخيل بأن تتغير الأحوال يوما ما، أو أن تتحقق نبوءة تلك الأبيات التي كتبها مفدي زكريا خلف القضبان، وكأنه كان على يقين تام بأن يوم النصر سيأتي لا محالة، وسيضطر المُستعمِر في النهاية للاستسلام حتى ولو طال الزمان.
استعمار ناهب للبلاد
جثم الاستعمار الفرنسي على صدر الجزائر مدة 132 عاما، متخذا حجة “سخيفة” لاحتلال الجزائر. فقد كانت فرنسا الاستعمارية تبحث عن أدنى سبب لتبرر دخولها في حرب مع الجزائر، وذلك بعدما تحولت هذه الأخيرة إلى قوة إقليمية من الناحية الاقتصادية والعسكرية، حيث نجحت في بسط سيطرتها على جزء كبير من التجارة في البحر الأبيض المتوسط، ولم يكن بإمكان فرنسا وعدد كبير من الدول الأوروبية التحرك في مياه البحر دون دفع الإتاوات للجزائر.
ظلّت باريس تتحين فرصة الهجوم على الجزائر، وقد جاءت على طبق من ذهب، لا سيما وأن أسطول الجزائر تعرض للتحطيم قبل ذلك بثلاث سنوات في معركة نافرين، وأرسلت فرنسا قنصلها العام في مهمة روتينية إلى الجزائر من أجل الحديث مع داي الجزائر في مسألة تمديد مهلة الديون. حينها استشاط الداي غضباً، وأشار بمروحته إلى القنصل العام بضرورة مغادرة القصر، وهو ما بات يُعرف بحادثة المروحة التي اعتبرتها فرنسا السبب المباشر لاحتلال الجزائر، ليغادر آخر دايات الجزائر العثمانيين قصره إلى منفاه بمدينة ليفورنو الإيطالية، ثم إلى الإسكندرية إلى أن وافته المنية عام 1838، لتبدأ حينها فرنسا في تنفيذ خطتها الجهنمية لنهب ثروات البلاد.
تاريخ دامٍ قاد إلى التحرير
شتان بين حال الجزائر في 5 يوليو/تموز عام 1830 وبين حالها في ذاك اليوم من عام 1962، حيث تفنّن المستعمر على مدار 132 عاما في فرض أبشع أشكال التعذيب والتنكيل على الشعب الجزائري.
مخطئ من يعتقد أن كفاح الجزائر استمر فقط بين عام 1954 و1962، فالشعب الجزائري انطلق في وقت مبكرا جدا نحو حركة التحرير، ولم تكن الثورة التحريرية الكبرى “ثورة أول نوفمبر” إلا فصل الخطاب بعد حوالي مئة عام من الثورات التي تعاقبت بعناوين مختلف؛ “مقاومة الأمير عبد القادر” عام 1832 و”مقاومة لالة نسومر” عام 1854، و”مقاومة المقراني” عام 1871، و”مقاومة الشيخ بوعمامة” عام 1881، وغيرها من المقاومات التي تحركت في السنوات الأولى التي أعقبت حادثة “المروحة” الشهيرة.
نتيجة لذلك بات الشعب الجزائري في خانة أبرز شعوب العالم التي قدمت تضحيات كبيرة من أجل الحرية، ويكفي الإشارة إلى المجازر التي ارتكبها المستعمر بحق الجزائريين، ومنها مجازر 8 مايو/أيار 1945 التي كانت بمثابة القطرة التي أفاضت الكأس بعد أن ارتكبت قوات المستعمر الفرنسي جرائم بشعة جدا ضد الشعب الجزائري الأعزل، حيث راح ضحيتها أكثر من 45 ألف جزائري تعرضوا حينها لأبشع أنواع التعذيب والقتل الجماعي في أسبوع واحد من قبل القوات البرية والجوية والبحرية للمستعمر الذي قام بتدمير القرى والمداشر والمدن.
كانت تلك المجازر حلقة أساسية ليفجر الشعب الجزائري بقيادة جبهة التحرير الوطني ثورة أول نوفمبر/تشرين الثاني 1954 المجيدة، والتي جاءت بعد أن كذبت فرنسا على الشعب الجزائري وخالفت وعدها بمنحهم الاستقلال عقب نهاية الحرب العالمية الثانية في شهر مايو/أيار 1945 نظير مشاركة عدد كبير من أبناء الشعب الجزائري في حربها على دول المحور.
لقد اختارت “جبهة التحرير الوطني” الطريق الصحيح بإعلان ثورة نوفمبر، ونجح رفاق الشهيد العربي بن مهيدي والعقيد لطفي وزيغوت يوسف وديدوش مراد بإلحاق عدة هزائم بقوات المستعمر الفرنسي، واستنزاف المستعمر عسكريا وسياسيا، لتجد فرنسا نفسها في النهاية ملزمة بالرضوخ لمطلب الشعب الجزائري، وذلك بعد أن حققت الدبلوماسية الجزائرية مكاسب دولية وحصلت على اعتراف دبلوماسي من الأمم المتحدة لتأسيس دولة الجزائر.
استقلال 1962 وحراك 2019
بدأت تباشير استقلال 5 يوليو/تموز تلوح في الأفق عام 1959، وذلك عندما اضطر الرئيس الفرنسي الراحل شارل ديغول إعلان حق الشعب الجزائري في تقرير مصيره، لتبدأ محادثات إيفيان بين الحكومة الفرنسية وجبهة التحرير، والتي أسفرت عن اتفاقيات إيفيان التاريخية، وذلك بعدما عبّد كفاح الشعب الجزائري طريقها بالتضحيات.
تقرر اختيار يوم 5 يوليو/تموز 1962 تاريخا رسميا لإعلان استقلال الجزائر، وذلك في رمزية لمحو آثار الاحتلال ومسح هزيمة 5 يوليو/تموز 1830 بسيدي فرج، حيث قامت الجزائر بتوقيع مرسوم الاستقلال رسميا يوم 3 يوليو/تموز 1962.
في ذلك اليوم تتذكر الجزائر كل تلك التفاصيل، ولا يزال الشعب يحلم بإعادة مجد البلاد المغتصبة، فتاريخ 5 يوليو/تموز لم يكن أبدا يوما عاديا بالنسبة للجزائر، فهو محور قصة أكبر بلد في أفريقيا من حيث المساحة بين حدود الهزيمة والنصر، وقد جاءت الذكرى الـ57 لاستقلال بلد المليون ونصف المليون شهيد عام 2019 ومعها أسئلة أخرى عن نصف ثورة يريد الشعب إكمالها ضد قهر آخر اسمه نظام الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة الذي حكم البلاد 20 عاما (من 1999 إلى 2019).
بعد رحيل المستعمر القديم قرر الشعب الجزائري الثائر استكمال مسيرة البناء، ليتحول تاريخ 5 يوليو/تموز من يوم للاحتفال بالنصر إلى موعد جديد للحراك الشعبي الذي ظل يتجدد كل يوم جمعة منذ 22 فبراير/شباط 2019، وقد شاءت الأقدار أن تحلّ ذكرى الاستقلال في يوم جمعة، والذي بات يوصف في الجزائر بأنه “يوم مقدّس للحراك” بعد عشرين أسبوعا (أي تقريبا خمسة شهور يتوسطها شهر رمضان) لم يتعب فيها الشعب من الخروج كل جمعة للمطالبة بحقوقه.
حراك شعبي في حضن شوارع الشهداء
يقف تاريخ 5 يوليو/تموز 2019 بين محطتين هامتين في تاريخ الجزائر، فكما يقول النشيد الوطني الجزائري “عقد الشعب الجزائري العزم على أن تحيا الجزائر”، والمعنى هنا لا يعني التحرر فقط من بطش الاستعمار، وإنما بناء دولة ديمقراطية شعبية حديثة، وذلك بعدما دفعت الجزائر ثمنا غاليا من أجل الحصول على الحرية.
فتاريخ 5 يوليو/تموز يعود ومعه ثورة جديدة لا تشبه الأولى، لكنها تحمل نفس الروح التي حرّكت الشعب عندما سعى الفرنسيون لاستعادة هيبة الملكية والتوسع الاستعماري.
جاء طعم الاحتفال بالاستقلال هذه السنة مختلفا وحاملا معه عدة أسئلة؛ فماذا يعني الاستقلال؟ وكيف تبدو ملامح البلاد في وسط رحلة البحث عن الشخصية التوافقية لقيادة البلاد؟ ومن هي تلك الشخصية التي تستحق فعلا أن تحكم بلد المليون شهيد؟ وقد تجدد السؤال لأول مرة بشكل مختلف تماما، وقد تربع على عرش قصر الرئاسة بالمرادية حتى الآن أحد عشر رئيسا بين مُنتخب ومعين ومؤقت، وكانت نهاية كل واحد منهم مختلفة تماما عن سابقه.
عندما حاول الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة توسيع نفوذه بعهدة خامسة جلبت العار للجزائر وأفاضت كأس غضب الشعب؛ وجد نفسه محاصرا في قصره بحراك شعبي أصبح ظاهرة جميلة ومضرب مثل في العالم، وذلك لما عكسه من وعي شعبي.
بعد 57 عاما من الاستقلال خرج أحفاد الشهداء في مسيرات ضخمة رافعين شعارات ساخرة ومناهضة لكل أشكال الدكتاتورية، ولم ينسوا في مسيرتهم صور المقاومين الذين سقطوا خلال حرب التحرير، وذلك في رمزية للتأكيد أن سعيهم اليوم هو خطوة لاستكمال رسالة الشهداء.
هكذا تقف الجزائر اليوم بين ثورة تحريرية كبرى وحراك شعبي لا يزال يحشد الملايين من الجزائريين كل يوم جمعة، وقد وصل عددهم في الجمعة الثالثة من الحراك يوم 8 مارس/آذار 2019 إلى أكثر من 17 مليون جزائري -بحسب الأرقام التقريبية- انتشروا في 48 ولاية جزائرية، وارتموا في حضن “موريس أودان” و”ديدوش مراد” و”حسيبة بن بوعلي” و”كريم بلقاسم” و”العربي بن مهيدي” أودان، وهي اليوم أسماء لأبرز شوارع الجزائر العاصمة، كانت بالأمس أسماء لرجال ونساء شرفاء هزمت قوات الاستعمار الفرنسي.
تحول اسم “أودان” من مناضل شيوعي حارب الاستعمار وقُتل تحت تعذيب المظليين الفرنسيين إلى عنوان للحرية والنضال يحجّ الناس إلى شارع يحمل اسمه قرب ساحة البريد المركزي وسط الجزائر كلما ضاقت بهم سبل الحرية، وكل تلك الشوارع أصبحت عنوانا يلتقي فيها الناس اليوم من أجل بناء دولة ديمقراطية، منهم شباب قطع مسافات طويلة مشيا على الأقدام من أجل الوصول إلى “أودان” ليردد ما كان أودان يردده بالأمس “جزائر حرة ديمقراطية”.
فخر بالحراك وخوف من المفاجآت
تزامن الإعلان عن “مليونية الخامس من يوليو” مع إحياء عيد استقلال، ولم يغادر الحراك الشعبي الجزائري فكرة الحرية، حيث قرر الحفاظ على المطالب المرفوعة، وقد تنوعت أشكال النضال لتداعب مشاعر الفخر بما حققه الحراك حتى الساعة. (أبرز المطالب التي تحققت استقالة الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة بتايخ 2 أبريل/نيسان 2019، ومحاكمة أبرز رموز نظامه منه شقيقه سعيد بوتفليقة).
رغم كل ذلك فإن الشعب لا يزال يشعر بالخوف على ما تم تحقيقه، ففرحة الاحتفال بعيد الاستقلال لم تنسهم أبدا وصايا الشهداء وسط العديد من المفاجآت التي تعترض طريق “الحراك” بين الحين والآخر، ومنها اعتقال المجاهد لخضر بورقعة الذي يعتبر أحد قادة الولاية التاريخية الرابعة خلال ثورة التحرير. وقد جاءت الصدمة بالتزامن مع عيد الاستقلال، ليجد مجاهد الأمس نفسه خلف القضبان في السجون الجزائرية في ذكرى عيد الاستقلال، بعدما قرر قاضي التحقيق الجزائري إيداعه الحبس المؤقت تحت ذريعة تصريحات له صُنفت في خانة “محاولة لإحباط معنويات الجيش الجزائري” الذي ساهم في تأسيسه عندما كان شابا مجاهدا في صفوف ثورة أول نوفمبر/تشرين الثاني.
2019-07-11
المصدر: الجزيرة الوثائقية