مسلمو البرازيل.. فصول من الإستبعاد والثورة والإندماج
القيد لا يَكسر في النّفس العزة، والسوط لا يرهِبُها، والإيمان رفيقك أينما تكون وأينما رحلت. وللمسلمين في البرازيل قصة وحكاية.
حكاية يسبر أغوارَها التاريخية فيلمٌ بعنوان “المسلمون في البرازيل” ضمن سلسلة “نسيج وطن” وهي من إنتاج الجزيرة الوثائقية.
يستعرض الفيلم قصة الحضور الإسلامي ودوره في تحرير البرازيل من نير الاستعمار الأوروبي البرتغالي لهذه البلاد الجميلة التي شكلت في الماضي مكانا للهيمنة الأوروبية وإرثها الدامي في تاريخ الإنسانية المعذبة. قصة تعود جذور تبلورها التاريخية إلى أواخر القرن السابع عشر وبداية تاليهِ الثامن عشر الميلادي، يوم كانت أرض البرازيل مستعمرة برتغالية تعاني فوق واقع الاحتلال الأجنبي إرث العبودية الوافدة التي كانت السودان مركز ثقل تصدير يدها المسترقة.
يقول الدكتور أندريه مارتين “إن الرقيق من الأفارقة المسلمين كانت لهم شخصية وقدرة تمكنهم من الحكم الذاتي لم يصل إليها العبيد الآخرون في ذلك الوقت، ولهذا كانوا أصحاب أكبر حراك للتحرر من الرق، وهي التي تعرف باسم ثورة الماليز”.
وكان آخر تلك الثورات عام 1835 وتسمى “ثورة الماليز” أو ثورة العبيد والتي تعامل معها البرتغاليون بقسوة كبيرة أعدموا خلالها العلماء والأئمة والمعلمين لتقويض حركة الثورة الإسلامية على الرق في البلاد، كما شرعوا في نفي الكثير من أهل العلم وأئمة المساجد والمدرسين وإرجاعهم لبلادهم الأصلية.
ضحايا الرق وثورة العبيد
استعبد البرتغاليّون الأحرار وجلبوهم من شتات القارة الأفريقية لاستصلاح وزراعة الأراضي التي وضعوا يدهم على مساحاتها الشّاسعة بقوّة السّلاح. كان سواد الرقيق الأعظمُ من العبيد المسلمين الذين تشرّبت نفوسهم تعاليم الدّين وصافحت بشاشة الإسلام قلوبَهم، فظلّوا معتصمين بحبل تُراثهِم واعتناق معتقَدِهم رغم فرض سلطات الاستعمار البرتغالي الخروجَ من الإسلامِ وممارستِها عليهم الضّغطَ والتنصير مما حملهم على رفع راية التحرُّر منتفضين في وجه الاضطهاد في حركة عصيان كانت آخر فصول محاولتِها الفاشلة ثورة 1835 الكبيرة.
هذه الثورة أذكاها عبيد قبائل الهوسا عندما هبوا لمساندة انتفاضة ثوّار الماليز (الأفارقة المسلمين) من أجل فرض الحكم الذاتي واحترام الدين الإسلامي انطلاقا من منطقة باهيا (سلفادور).
لكنّ الدولة الرسمية تمكّنت من وأد الثورة التحرّرية التي بقيت شواهدها التراثية والمعماريّةُ محفوظة رغم اندراس حراكها المنتفض ورغم مصادرة مسارها. ومن أبرز الأمثلة على ذلك تحويل مسجد الحيّ القريب من المركز الإسلاميّ”باهيا” إلى كنيسة.
الماليز في وجه الظلم
ورغم القضاء على ثورة “الماليز” فإن حركتهم التحرّرية ساهمت في توعية المجتمع الأهليّ البرازيليّ وتثقيفه بدور الإيمان في صناعة التّغيير ومواجهة الظلم الاجتماعي، حتى أصبح العبيد المسلمون مضرب المثل في الفدائية والإخلاص.
وترى مديرة مركز الدراسات العربية في البرازيل “آرليني كليمشيا” أن دور هذه الحركة كان كبيرا، إذ ركزت انتفاضة العبيد في باهيا بالبرازيل على المطالبة بالتحرر من نظام الرق واستعباد الإنسان لأخيه الإنسان، وكانت الحركة التحررية هذه تستمد عقيدتها من الثقافة الإسلامية.
إن حركة التمرد على الرق تستمد قوتها ودافعيتها من تعاليم الدين الإسلامي التي ترفض الظلم، لذلك عندما تشبع الناس بهذه الثقافة في تلك الفترة بدأ رفضهم للرق.
الإمام الرحالة البغدادي
وعلى بساط القدَر المفاجِئ حملت رياح الحظ الشيخ عبد الرحمن البغدادي حتى أنزلته من غير سابق ميعاد بـساحل “ريو دي جانيرو” في رحلة كان مبرمجا لها في الأصل أن تنتهي إلى مدينة البصرة وتمر في طريقِها برأس الرّجاء الصّالح.
حينها طلب العبيد المسلمون منه أن يلبث فيهم معلما ومفقها فمكث معهم ثلاث سنوات يعلمهم أمر دينهم ويزور من حين لآخر إخوانهم في “باهيا” ومناطق الوجود الإسلامي.
ازدهرت الثقافة الإسلامية بشكل كبير وخصوصا في مدينة باهيا التي لاتزال هويتها الأفريقية شاهدة على إرثها التاريخي من خلال سحنة السكان والتماثيل التي بقيت شاهدة على هذا الوجود الإسلامي المبكر في البرازيل.
كما يتضح هذا التراث أيضا من خلال المخطوطات العربية الإسلامية التي تبدو شاهدة على صفحات من تاريخ هذه البلاد الديني والثقافي، فبعض المساجد التي حُولت إلى كنائس لاتزال شاهدة على وجود المسلمين ونمط عمرانهم الإسلامي في البلاد.
كما أن المسلمين المجاهدين من أجل إقامة قيم الحق والحرية ومقاومة الظلم والفساد ظل لهم تأثير في حياة كل من احتك بهم.
روافد جديدة.. هجرات عربية
وبين عامي 1877 و1878 زار إمبراطور البرازيل بيدرو الثاني بلاد الشام ومصر ملتمِسا من السلطات الرسمية العثمانيّة تشجيع وتسهيل هجرة العمالة إلى بلاده.
رأت الأقليات المُغاضِبَةُ في هذه المناسبة فرصة سانحة وأفقا واعدا للعمل في بقعة جديدة من الأرض فكانت سوريا ولبنان مركز الهجرات العربيّة إلى المنتبذِ الأمريكي اللاتينيّ القَصِيّ، ولا سيّما من أبناء الجالية الشّامية النّصرانيّة.
وكانت سنة 1870 قد سجّلت أوّل حالة هجرة عربيّة جماعيّةٍ طوعية ومنظّمة بلغ تعداد أفرادها ما بين خمسة آلاف وستةِ آلاف عربيّ (مسلمين ونصارى) سرعان ما تحوّل بعضهم من مكابدة الزراعة إلى ممارسة التجارة وحققوا نجاحات كبيرة في هذه البلاد.
وكان لهم دور كبير في حركة الثقافة العربية في وقت لاحق لأن الاستقرار والوفرة قادت إلى بروز نخبة أدبية وفكرية شكلت رافدا هاما للثقافة العربية.
مسلمو البرازيل.. اندماج وحضور
تحول العدد في منتصف القرن العشرين من مجرد آلاف معدودة إلى ما يقارب المليون ونصف المليون مسلم يقيمون في هذه البلاد، وبعضهم اكتسب الجنسية ودخل نسيج الحياة الاقتصادية والسياسية واتجه للمشاركة بشكل واسع في الحياة العامة للبلاد كأي مواطن آخر من السكان الأصليين.
إذن، مرت هجرة المسلمين للبرازيل بمحطات متعددة لكن في أطوارها الأخيرة صاحبها اندماج واع من لدن الوافدين وترحيب منفتح من قِبَل السكّان وعنايةٌ رسمية من طرف الحكومة. وقد فتحَت السلطات آفاقا رحبة لاحتضان الثقافة العربية رغم تحدّيات ومغريات فوارق الخصوصية والهُويّة.
الدعوة الإسلامية.. الشيخ مظلوم
في العقود الأخيرة بدأت الدعوة الإسلامية حضورها البارز في الحياة العامة موظفة وسائل الإعلام المختلفة، ومن أبرزها تجربة الشيخ محمد مظلوم وأسرته التي عملت وبذلت جهدا كبيرا في نشر الإسلام والوعي الديني في هذه البلاد.
يقول الشيخ “بدأنا في الإعلام منذ حوالي ١٥ عاما، إذ كنت مع مجموعة من الطلاب ودخلنا على خط إنتاج الشريط وتسجيلات “السي دي” وأسمينا مجموعتنا قافلة الإيمان”.
وتنتج هذه المؤسسة خطابا دعويا موجها لغير المسلمين والراغبين في دخول الإسلام تعلمهم أركان الإسلام وإقامة الصلاة وترشدهم إلى كيفية حفظ القرآن الكريم، إضافة إلى توفير ترجمة كاملة لمعاني القرآن بالبرتغالية.
ويقبل الكثير من الشباب البرازيلي على الإسلام الذي يجدون فيه أجوبة مقنعة لأسئلتهم الدينية والغيبية، ويفضل الكثير منهم العيش في وسط المجتمع المسلم لما في ذلك من فرص تعميق معرفتهم بالدين الإسلامي وتعاليمه، فضلا عما يوفره العيش المشترك من فرص التضامن والالتزام الديني.
واجهت الشباب المسلم صعوبات كبيرة، في المحافظة على الالتزام وسط مجتمع غربي مفعم بانتشار الرقص والموسيقى وشرب الكحول، كما تواجه المرأة المسلمة على وجه التحديد صعوبات كبيرة لكون لباسها يعكس بشكل مباشر هويتها.
حرية عالية السقف
يقول المسلمون في البرازيل إنهم يمارسون شعائرهم الدينية بكل حرية ويشاركون في الحياة العامة دون أن تواجههم ظواهر تسود البلدان الأخرى كالإسلاموفوبيا وغيرها من ظواهر تطارد المسلمين في العديد من الدول والمجتمعات الغربية.
وفي حديثه بوثائقي الجزيرة يشيد رئيس اتحاد المؤسسات الإسلامية في البرازيل محمد الزغبي بالتنوع العرقي في البلاد، قائلا “إن البرازيليين شعب منفتح على كل الأعراق والشعوب والديانات”.
أما كارلوس ديوس فيشكل نموذجا للمواطن المسيحي الكاثوليكي الذي يعمل في مؤسسة ذات طابع دعوي إسلامي، وهو يقدم شهادة بأنه يناقش معهم آراء تتعلق بالدين دون أن يلمس تعصبا لرأي محدد.
١١ سبتمبر.. محطة اختبار
شكلت أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001 محطة اختبار للصورة الإسلامية في البرازيل خصوصا وأن البلاد ليست في عزلة عن العالم بل هي في قلبه.
يقول الدكتور أندريه مارتين “إن الحملات الإعلامية بعد 11 سبتمبر/أيلول تجعلك تشعر بأن العرب أعداء الغرب وهي صورة تتسلل إليك شئت أم أبيت لأن وسائل الإعلام تمطرك بتقارير وأخبار تقرر أن العربي إرهابي”.
وكادت هجمات 11 سبتمبر/أيلول أن تعصف بصورة المسلمين في البرازيل إلا أن دعاة الإسلام واجهوا الأزمة بوعي كبير، واتجهوا لتقديم صورة عملية أفضل مما مكنهم من تجاوز الأزمة.
ويعتبر الداعية البرازيلي أرماندو حسين أن الشعب البرازيلي شعب رائع ومتألق ويبحث عن ملاذ من الناحية الروحية، ولذلك فإن الإسلام في هذه البلاد يتقدم بخطاً واثقة ويلاقي تجاوبا كبيرا من المقبلين عليه وتفاعلا من الداعين إليه والراغبين في اكتشاف الثقافة الإسلامية.
وعلى هامش الأعياد والمناسبات الدينيةُ تقام فعاليات واحتفالات تعزز التواصل الثقافي والاجتماعي بين البرازيليين وأبناء الجالية العربية والإسلامية.
2019-07-10
المصدر: الجزيرة الوثائقية