“مجزرة الحولة” في ذكراها السابعة جرح لا يندمل
سبع سنوات وما زالت صور أطفال مجزرة الحولة ماثلة في ذاكرة السوريين والعالم، واحدة من أبشع المجازر التي ارتكبتها ميليشيات الأسد الطائفية منذ بداية الثورة السورية في عام 2011، أعادت مشاهدها إلى الأذهان حضور البربرية بأجلى حالاتها وعمليات التعذيب الوحشية والهمجية التي كانت تجري في العصور الوسطى، وذلك بعد أن قتلت هذه الميليشيات أكثر من 108 مدنيين بينهم نساء وأطفال ذبحاً بالسكاكين وحراب البنادق، وأطلقت النار على أعناقهم ورؤوسهم من مسافات قريبة بدم بارد.
لم يكن تاريخ 25- 5- 2012 يوماً عادياً بالنسبة إلى أهالي مدينة “الحولة” التي تقع شمالي غرب حمص، حيث كانوا على موعد مع تلك المجزرة الذي ذُبح فيها 49 طفلاً أعمارهم دون العاشرة، جُزت أعناقهم الغضة بسكاكين قذرة، و33 امرأة ومثلهم من الرجال قتلوا بالطريقة نفسها، إضافة إلى قصف المدينة بمئات الصواريخ والقذائف من أكثر من 10 حواجز لقوات الأسد تقع على التلال القريبة من القرى الموالية المحيطة بالمنطقة، في لحظات لا يمكن وصفها إلا أنها كانت كأهوال يوم القيامة.
يقول “سامر الحمصي”، ناشط من الحولة شهد المجزرة ووثقها، لـ”حرية برس”، “نحن الناشطين وثقنا المجزرة وبثثناها على وسائل الإعلام، ولا يمكننا نسيان تفاصيل ذلك اليوم الذي حفر في ذاكرتنا، فمع هول الصدمة جراء هذه الجريمة الشنيعة كان لا بد لنا من تمالك أنفسنا والتغلب على مشاعر الخوف والرعب والغضب والحزن وعجزنا عن حماية هؤلاء الأبرياء، وتجاوز الأحاسيس التي كنا نعيشها في تلك اللحظات والقيام بدورنا في تغطية هذه المجزرة، حيث بدأنا نتنقل في المنطقة للوصول إلى مكان جثث الشهداء بعد أن سحبهم عناصر الجيش الحر من الحي الذي ارتكبت فيه المجزرة (حي السد) ونقلوهم إلى المسجد في منطقة تلدو”.
وأضاف: “كان السير على الطرقات خطراً جداً بسبب القصف الذي لا يهدأ من الحواجز المحيطة بالحولة جميعها، بالإضافة إلى قصف المنطقة بصواريخ بعيدة المدى من الكلية الحربية القريبة من حي الوعر في مدينة حمص، فتطوع أحد الشباب العاملين معنا ضمن المكتب الإعلامي، (الناشط الشهيد بلال أبو عروبة)، بالذهاب إلى المسجد لتصوير وتوثيق الشهداء بعد أن رفض أن نذهب معه لأننا مسؤولين عم أُسَرِنا، حيث كان لا بد من قطع مسافة 5 كيلومترات على طريق مكشوف للحواجز والقذائف تستهدفه رشقات عربات الشيلكا، للوصول إلى مكان تجمع الشهداء، فأتم المهمة بنجاح حينها وبدأنا ببث الصور ومقاطع الفيديو المروعة على الإنترنت مساءً، وبدأت القنوات التلفزيونية والمحطات الإخبارية تتناقل الخبر ومقاطع الفيديو، وماهي إلا ساعات حتى خرجت عشرات المظاهرات الليلية في معظم المدن السورية تضامناً مع الحولة وتنديداً بالمجزرة”.
*بكاء الناشط الشهيد بلال أبو عروبة في أثناء توثيقه مجزرة الحولة ومشهد قتل الأطفال بطريقة وحشية:
وأكمل “الحمصي”: “كان الصمت يسود غرفة المكتب الإعلامي والشباب المتواجدين جميعهم يقومون برفع الصور والفيديوهات المتلاحقة، والتلفزيون على أحد القنوات يعرض أخبار المجزرة التي حدثت على بعد كيلو مترات قليلة من مكاننا، ثم انتقلت المحطة إلى بث مباشر لمظاهرة في مدينة داعل في درعا، وكان قائد المظاهرة يهتف بصوت درعاوي جميل وحنون والجموع تهتف وراءه “يا حولة درعا معاكي للموت يا حولة.. يا حولة حنا معاكي للموت يا حولة”، فكانت هذه الكلمات بمثابة القنبلة التي فجرت الدموع في عيوننا وباتت تنهمر بعد أن حبسناها ساعات عديدة طوال الليل”.
وتابع الحمصي: “الضجة الإعلامية التي سببتها الفيديوهات والمقاطع المصورة المنشورة كانت سبباً في إيقاف قصف النظام على المنطقة، فأصبح التنقل بين بلدات الحولة أمناً نوعاً ما، ونُقلت جثامين الشهداء إلى برادات الخضار والفواكه المتواجدة في المنطقة، وذلك بعد التواصل مع لجنة مراقبي الأمم المتحدة الذين وعدونا أنهم سيأتون صباحاً لمعاينة الحادثة بحجة أن نظام الأسد لا يسمح لهم بالتنقل ليلاً، وفي اليوم التالي نقلت جثامين الشهداء بعد أن كفنت إلى أحد المساجد في تلدو في انتظار المراقبين الذي وصلوا عند الظهيرة، ووثقوا الجريمة بعدساتهم، حيث أن إحدى أعضاء اللجنة أجهشت بالبكاء من هول المنظر وقسوته بحق الأطفال الذي فقد بعضهم نصف رأسه، وبعضهم الأخر كانت آثار الدمار ما تزال على رقبته التي فُتح فيها جرح كبير من الوريد إلى الوريد بفعل السكين، ومنهم من أطلق النار على عينه وفقد نصف رأسه من الخلف”.
شاهد آخر من الحولة وأحد سكان منطقة “تلدو” طلب عدم الكشف عن اسمه قال لـ”حرية برس”: “كانت ميليشيات الأسد الطائفية التي نزلت إلى حي السد في تلدو من القرى الموالية المحيطة (القبو، فلة، الغور الغربية) تهدف إلى قتل أكبر عدد ممكن من الناس في ذلك اليوم، حيث لم تكتف ميليشيات الأسد المتواجدة على الحواجز بقصف المنطقة، بل تسللت ليلاً مسلحة بالبنادق والسكاكين، وكان الضحايا معظمهم من الأطفال الصغار الذين واجهوا الذبح بالسكين في العنق أو من خلال طلقة في الرأس أو موقع آخر من الجسد، الواحد تلو الآخر”.
وأضاف أنه “بعد نزوح سكان تلدو معظمهم إلى بلدات الحولة الأخرى ( تلذهب، كفرلاها، الطيبة الغربية)، دخلت مجموعة من ميليشيات الأسد قادمة من حاجز مؤسسة المياه إلى الحارة الجنوبية عند مدخل تلدو، وحاصروا حارة صغيرة، لم يبق فيها سوى عائلتان من (آل السيد)، بينهم عقيد في الشرطة المدنية متقاعد، لم ينزح ظناً منه أن النظام لن يقترب منه، حيث قضى العقيد و15 شخصاً من العائلة نفسها، فيما تمكنت إحدى زوجات العقيد المتقاعد مع إحدى بناتها من الهرب عبر باب خلفي للمنزل”.
هزّت مجزرة الحولة السوريين جميعاً والعالم بأسره، لما حملته من مشاهد فظيعة فاقت الوصف، وكانت ردود الفعل الشعبية للسوريين تعبر عن كمية الحزن والقهر الكبيرين من هول الكارثة وعدد الضحايا، وخصوصاً مع طريقة القتل ذبحاً التي أثبتت مدى الانحطاط الإنساني الذي تحمله الميليشيات الطائفية الموالية للأسد، كما لاقت المجزرة استنكاراً دولياً وطردت كل من “الولايات المتحدة الأمريكية، بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، النمسا، سويسرا، هولندا، بلجيكا، بولندا، النرويج، البرتغال، تركيا، أستراليا، نيوزيلندا، اليابان) السفراء السوريين من أراضيها، من دون أي تحرك جدي على الأرض لمحاسبة القاتل، حيث أكدت فيما بعد لجان تحقيق تابعة للأمم المتحدة أن نظام بشار الأسد وشبيحته هم المسؤولون عن المجزرة.
سنوات مضت على مجزرة الحولة التي ارتكبتها ميليشيات الأسد الطائفية، وأعقبها حدوث مجازر عديدة بعضها استُخدم السلاح الكيماوي والغازات السامة في تنفيذها، وما يزال بشار الأسد في سدة الحكم، فيما يبدو أنه باق بموافقة ضمنية من المجتمع الدولي ومباركة من الأمم المتحدة اللذين ارتضوا النهج الذي يسير فيه هذا المجرم وميليشياته، وبات السوريون اليوم مدركين أنهم يقتلون “فرق عملة” في ميزان المصالح الدولية، وأنه لا حل في سوريا إلا بمحاسبة هذا النظام بالقوة، معلنين أن دماء أطفال الحولة ستبقى مشاعل نصر تنير الطريق كلما خبت شعلة الثورة، وتجدد إصرارهم على الانتقام لهم من قاتلهم وتقديمه للقضاء لينال جزاءه العادل مهما طال الزمن.
2019-05-25
المصدر: حرية برس