نظرية التعلم الاجتماعي وتأثيرها المستمر في العملية التعليمية
يعد التقليد والمحاكاة سمة طبيعية لدى الإنسان سواء كان طفلاً أو راشداً، كون الإنسان في عملية تعلم مستمر، وهذا الأمر يفرض عليه تحديات جديدة قد لا يملكها في الوقت الراهن، وبالتالي سيلجأ لتعلمها من خلال مشاهدة نماذج أخرى تؤديها أو من خلال القراءة عنها في الكتب. ولا يتوقف التعلم من خلال النموذج فقط على المعارف والمهارات بل يتسع ليشمل العواطف والمشاعر وكيفية التعبير عنها، بمعنى أن الطفل الذي يشاهد والدته ترفع من نبرة صوتها وتلجأ للصراخ عندما تغضب، سيقوم بمحاكاة ردة فعلها العاطفية بنفس الطريقة عندما تعتريه نوبة غضب؛ لأن هذا ما شاهده وتعلمه كطريقة للتنفيس عن الغضب، بخلاف الطفل الذي يشاهد والده عندما يغضب يلجأ للصمت فسيقوم حتما بمحاكاة ذات الأسلوب في غضبه. وهذا الأسلوب في التعلم -التعلم بالملاحظة- ليس بجديد في المجال الديني على الأقل، فقد كان من الأساليب التربوية التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم، لتعليم الناس أمور دينهم مثل الصلاة، والحج وغيرها، كما أن القرآن الكريم يحتوي على الكثير من القصص التي فيها عبر لأولي الألباب. ولكن الجديد هنا في فكرة التعلم بالملاحظة أن ألبرت باندورا صاحب نظرية التعلم بالملاحظة أو التعلم الاجتماعي وضع لها أسسا نفسية معرفية تفيد المربي، والوالدين في معرفة الطريقة التي يتم بها التعلم بالملاحظة و العمليات العقلية التي يحتاجها الشخص ليحدث عنده هذه النوع من التعلم الذي يختصر على المتعلم أو المربي الكثير من الجهد والوقت لاكتساب المعارف والمهارات.
1- مفهوم نظرية التعلم الاجتماعي
يندرج مفهوم نموذج التعلم بالملاحظة ضمن حقل سوسولوجيا التربية ، و يقوم على افتراض مفاده أن الإنسان ككائن اجتماعي، يتأثر باتجاهات الآخرين ومشاعرهم وتصرفاتهم وسلوكاتهم، أي أن باستطاعته التعلم منهم عن طريق ملاحظة استجاباتهم وتقليدها و إمكانية التأثر بالثواب و العقاب على نحو بديلي ( غير مباشر ) و هذا ما يعطي التعليم طابعاً تربوياً لأن التعلم لا يتم في فراغ بل في محيط اجتماعي (نشواتي ،2005).
و تعرف هذه النظرية بأسماء أخرى مثل نظرية التعلم بالملاحظة و التقليد، أو نظرية التعلم بالنمذجة، أو نظرية التعلم الاجتماعي، و هي من النظريات التوفيقية؛ لأنها حلقة وصل بين النظريات السلوكية والنظريات المعرفية، ففي التعلم الاجتماعي يتم استخدام كل من التعزيز الخارجي و التفسير الداخلي للتعلم ( أبو شعيرة و غباري ، 2009).
2 نواتج التعلم الاجتماعي
ينتج عن التعلم بواسطة نظرية التعلم الاجتماعي ثلاثة أنواع من التعلم وهي:
أولاً : تعلم استجابات جديدة
يستطيع الملاحظ تعلم أنماط سلوك جديدة إذا لاحظ أداء الآخرين، كالطفل الذي يقلد والدته الواقفة على الكرسي لتناول شيء من رف مرتفع، و لا يتأثر سلوك الملاحظ بالنماذج الحية فقط بل بالتمثيلات الصورية و الرمزية عبر الصحافة و الكتب و السينما مثل تعلم كيفية تربية الطفل من خلال قراءة كتب في الطفولة وغيره ( اللصاصمة، 2011، أبو شعيرة و غباري، 2009).
ثانياً : الكف و التحرير
يقصد بالكف إعاقة و تجنب أداء السلوك من الفرد عندما يواجه النموذج عقاباً جراء انهماكه في هذا السلوك، كمشاهدة حادثة سير نتيجة السرعة فيقلل السائق من سرعته(الدوجان، 2009).
ثالثاً : التسهيل
يتناول التسهيل السلوكيات التي يندر حدوثها أو تواترها بسبب النسيان أو عدم الاستخدام فيعمل على تواترها و ظهورها عن طريق الملاحظة. و كمثال على ذلك تواجد شخص لفترة معينة في منطقة تتحدث اللغة الإنجليزية وبعد عودته إلى بلده لم يعد يمارس هذه اللغة، إلا أنه بعد زيارة صديق له من تلك المنطقة يعود فيمارس الحديث بتلك اللغة. (اللصاصمة ، 2011).
3- آليات التعلم الاجتماعي
يرى باندورا أن التعلم بالملاحظة يتضمن أربع آليات رئيسية، و هي:
أولاً: التفاعلية التبادلية
السلوك الإنساني يحدث داخل تفاعلية تبادلية ثلاثية هي: السلوك و المتغيرات البيئية و العوامل الشخصية؛ و تتضح التفاعلية في أحد مصطلحات باندورا و هو الكفاية الذاتية (هي توقعات الفرد واعتقاده حول كفاءته الشخصية في مجال معين)، و قد بينت الدراسات أن الكفاية الذاتية تؤثر في دافعية الفرد للسلوك أو عدم السلوك في موقف ما، كما تؤثر في طبيعة ونوعية الأهداف التي يضعها الأفراد لأنفسهم وفي مستوى المثابرة والأداء ( غباري و أبو شعيرة، 1430).
ثانياً : العمليات الإبدالية
ليس ضروريا أن يتعرض الفرد لممارسة الخبرة بنفسه كي يتعلم ، بل يمكن اكتسابها على نحو بديلي (غير مباشر) من خلال ملاحظة الآخرين، و يعني ذلك إمكانية تأثر سلوك الفرد (الملاحظ) بالثواب و العقاب على نحو بديلي (غير مباشر) حيث يتخيل المتعلم نفسه مكان النموذج، مثل : تعلم الخوف من الحشرات و الحيوانات، فليس ضرورياً أن يتعرض الفرد للدغة الأفعى كي يعرف أنها خطيرة (اللصاصمة، 2011).
و يجدر التنويه الى أن الثواب و العقاب غير مسؤولين عن تعلم السلوك مسؤولية مباشرة، بل ملاحظة سلوك النموذج، و محاكاة الاستجابات الصادرة عنه، هما المسؤولين عن التعلم (نشواتي، 2009).
ثالثاً: العمليات المعرفية
يحدث التعلم بالملاحظة عندما يقوم الشخص الملاحظ بتسجيل استجابات النموذج و تخزينها على نحو رمزي ثم يقوم باستخدامها كقرائن عندما يريد أداء هذه الاستجابات على نحو ظاهري، و هذا يشير إلى التأكيد على بعض العمليات المعرفية في تفسير عملية التعلم.
و مثل هذه العمليات تتم على نحو انتقائي و تتأثر بدرجة كبيرة بالعديد من العمليات المعرفية لدى الفرد الملاحظ، كما أن عملية تعلم استجابة ما من خلال الملاحظة و أداء مثل هذه الاستجابة يخضع إلى عمليات وسيطية مثل الاستدلال و التوقع و الإدراك و عمليات التمثيل الرمزي (الزغلول ، 2010).
رابعاً: عمليات التنظيم الذاتي
أن الفرد ينظم الأنماط السلوكية في ضوء النتائج المتوقعة منها، فتوقع النتائج المترتبة يحدد إمكانية تعلم السلوك من عدمه. (الزغلول، 2010).
4- مصادر التعلم الاجتماعي
يتطلب التعلم بالملاحظة والمحاكاة عملية التفاعل الاجتماعي مع الآخرين، وقد يكون هذا التفاعل مباشراً أو غير مباشر، ومن مصادر هذا التعلم ما أشار له (الزغلول،2010):
أ- التفاعل المباشر مع الأشخاص الحقيقيين في الحياة الواقعية
يمكن أن يتعلم الفرد العديد من الخبرات والأنماط السلوكية من خلال التفاعل اليومي المباشر عن طريق ملاحظة نماذج حية في البيئة. فنحن نتعلم من خلال التفاعل مع الوالدين والأقران وأفراد المجتمع الذي نعيش فيه. فعلى سبيل المثال، نجد أن الأطفال يتعلمون الكثير من الأنماط السلوكية من خلال محاكاة سلوك والديهم أو أفراد الأسرة التي يعيشون في ظلها، كما أنهم يتمثلون خصائص جنسهم والأدوار الاجتماعية والمهارات الحركية من خلال التفاعل مع الآخرين، كما يتم كذلك تعلم اللغات واللهجات على نحو مباشر من خلال التفاعل مع أفراد المجتمع الذي نعيش فيه.
ب- التفاعل غير المباشر ويتمثل في وسائل الإعلام المختلفة كالتلفزيون والراديو
يمكن من خلال هذه الوسائل تعلم الكثير من الأنماط السلوكية، إذ أن مثل هذه الوسائل تعد أدواتا إعلامية مؤثرة في السلوك. ويصنف التعلم الذي يتم من خلال التلفزيون والسينما في إطار التمثيل من خلال الصور، حيث أن الصور هي أكثر قدرة على نقل حجم معلومات أكبر مقارنة بالأشكال المعتمدة على الوصف اللفظي. وقد أشارت العديد من الدراسات إلى أثر التلفزيون السلبي في إكساب الطفل سلوكيات عدوانية من خلال مشاهدتهم للرسوم المتحركة.
ج- مصادر أخرى غير مباشرة يمكن من خلالها تمثل بعض الأنماط السلوكية
من هذه المصادر: القصص والروايات الأدبية والدينية، وكذلك من خلال تمثل الشخصيات الأسطورية والتاريخية.
5- هل تعتبر وسائل التواصل الاجتماعي من مصادر التعلم الاجتماعي ؟
نعم، فمتابعة شخص ذو توجه فكري معين في تويتر أو الفيس بوك يؤدي إلى تعلم الشخص أنماط تفكير لم تكن موجودة لديه وبالتالي تطبيقها على شكل أفعال معينة. وليس بالضرورة أن يكون هذا التوجه الفكري سلبيا، بل قد يكون إيجابيافي كثير من الحالات. كما أن موقع إنستقرام الشهير أدى إلى تعلم الأشخاص أنماطا سلوكية عالمية، كونه يضم العديد من المتابعين من مختلف دول العالم وهذا بدوره ساهم في اكتساب المتابعين للكثير من السلوكيات والمعارف التي لم تكن شائعة في بيئاتهم المحلية مثل طريقة طهو بعض المأكولات أو طريقة إعداد المائدة أو التعرف على بعض المناطق السياحية من خلال متابعة الحسابات الخاصة بذلك وغيرها. كما ساهم كذلك في تعليم بعض الهوايات التي لم تكن معروفة أو مألوفة مما أدى بالكثير من الأشخاص إلى البحث عن هذه الهوايات وتعلمها وبالتالي ممارستها.
6- مراحل التعلم الاجتماعي
يتطلب التعلم بالملاحظة والمحاكاة وجود نماذج يتفاعل معها الفرد على نحو مباشر أو غير مباشر، ويجب توفر أربعة عوامل تتمثل في (الزغلول، 2010):
أولاً: الانتباه والاهتمام
يعتبر الانتباه من العوامل الأساسية التي تدعو الشخص لمحاكاة سلوك معين، إذ بدون توفر هذا العامل لا يحدث التعلم. ويتوقف الانتباه على عدد من العوامل منها:
1.عوامل مرتبطة بالنموذج الذي يرغب الشخص في تقليده أو محاكاته
لا بد أن يتوفر في النموذج عدد من السمات حتى ينجذب له الشخص، وبالتالي يعمل على تقليده. ومن هذه السمات: المكانة الاجتماعية والاقتصادية للشخص، شهرة النموذج المقلد مثل اللاعبين والممثلين والدعاة، والسلطة والجاذبية من ناحية المظهر أو الأسلوب الحواري وغيره. فالنماذج التي تمتاز بمثل هذه السمات عادة ما تجذب انتباه الآخرين لما تعرضه من أنماط سلوكية.
2.عوامل مرتبطة بالشخص المٌقلد أو الُمحاكي للنموذج
وتتمثل في سمات شخصية و نفسية للشخص المُقلد مثل نظرة الشخص لذاته. فالأفراد الذين يملكون مفهوم ذات مرتفع أقل ميلاً للمحاكاة أو التقليد مقارنة بالأفراد الذين يملكون مفهوم ذات منخفض، كما أن وجود الدافعية لدى الشخص المقلد يدفعه لتعلم خبرات أو أنماط سلوكية معينة، ليحقق هدفا ما.
3.درجة التشابه بين الشخص المقلد والنموذج الذي يتم تقليده
تزداد فرصة الانتباه للأنماط السلوكية التي يعرضها النموذج في حالة وجود خصائص مشتركة تربطه بالآخرين، كالجنس والمستوى العلمي والبيئة الثقافية وبعض الخصائص الشخصية كالميول والاهتمامات والاتجاهات.
4.الأهمية المترتبة على السلوك الذي يعرضه النموذج الذي يتم تقليده
حيث يزداد الانتباه لسلوكيات النماذج التي تبدو ذات أهمية وقيمة للآخرين.
ثانياً: الاحتفاظ
تجدر الإشارة هنا إلى أن التعلم بواسطة الملاحظة والتقليد لا تظهر نتيجته بشكل فوري ومباشر بعد مشاهدة السلوك المطلوب تعلمه أو ملاحظته، وإنما يتم الاحتفاظ به واللجوء إليه عندما تقتضيه الحاجة. وهذا يتطلب توفر قدرات معرفية معينة لدى الفرد كالتخزين في الذاكرة والتذكر والاستدعاء. وتمثل هذه السلوكيات على نحو لفظي أو صوري أو حركي. كما تلعب عملية الممارسة والإعادة دورا كبيرا في تسهيل الاحتفاظ بالأنماط السلوكية التي يتم ملاحظتها وإعادة إنتاجها لاحقاً. ومن هذا المنطلق ينبغي التنويع في النماذج المعروضة على الأفراد وعرضها أكثر من مرة عليهم حتى يسهل عليهم ترميزها.
ثالثاً:الإنتاج أو الأداء أو الاستخراج الحركي
الاستدلال على حدوث التعلم بالملاحظة لدى الأفراد يتطلب أن يملك الشخص قدرات لفظية أو حركية، حتى يجسد هذا التعلم في أداء أو فعل خارجي قابل للقياس والملاحظة. ويتطلب ذلك توفر عامل النضج والملاحظة والممارسة. كما أن إنتاج الفعل السلوكي لا يعني بالضرورة أن يكون هذا الفعل صورة طبق الأصل للسلوك الملاحظ، فقد يعمل الفرد على إنتاج السلوك بشكل يتلاءم مع توقعاته.
رابعاً: الدافعية
يعتمد التعلم بالملاحظة على وجود دافع لدى الفرد لتعلم نمط سلوكي معين، وترجمة هذا التعلم في أداء ظاهر كذلك. ويتوقف الدافع على عدد من العوامل منها النتائج التعزيزية أو العقابية (النتائج الخارجية) المترتبة على سلوك النموذج، كما يعتمد أيضاً على العمليات المنظمة ذاتياً أي التعزيز الداخلي. أيضاً، قد يشكل السلوك الذي يعرضه النموذج دافعاً بحد ذاته للملاحظ لتعلمه، كونه يشكل أهمية في تحقيق أهدافه.
7- كيف يمكن أن نستفيد من نظرية التعلم الاجتماعي في المجال التعليمي؟
يمكن أن يسهم التعلم بالملاحظة في تشكيل الكثير من الأنماط السلوكية و المعارف منها:
8- هل يمكن تعلم السلوك الإبداعي من خلال نظرية التعلم الاجتماعي ؟
نعم، فالتعلم بالملاحظة يساعد على تعلم السلوك الإبداعي، وذلك من خلال التعرض إلى عدد كبير من النماذج بحيث يعمل الفرد على استخلاص سلوكيات هذه النماذج لتوليد سلوكيات جديدة ومبتكرة.
كما يشير الدكتور وليد فتيحي صاحب مستشفى المركز الطبي في برنامجه الشهير (ومحياي):
“أن السلوك الإبداعي يمكن تعلمه إذا خصص الشخص ساعة يومياً للتدرب عليه بشكل منتظم”.
خاتمة
تعد نظرية التعلم الاجتماعي من النظريات الممتدة الأثر سواء في الأوساط التعليمية أو التربوية أو التجارية، وذلك من منطلق كونها تفسر بشكل كبير طريقة التعلم التي يمارسها الفرد من خلال المحاكاة والتقليد، وبالتالي يجب علينا بعد تعرفنا على هذه النظرية أن نكون أكثر وعيا بتأثيرنا المباشر والغير مباشر في أطفالنا أو طلابنا، ونسعى أن نكون مثالاً جيدًا لما ندعوهم أن يكونوا عليه.
رقية السهلي
المصدر: تعليم جديد