المخرجة السورية سؤدد كعدان تتحدث عن الحرب والسينما والجوائز
الحرب في سوريا جعلتني أخسر كل شيء وحررتني من كل شيء"الحرب جعلتني أخسر كل شيء وحررتني من كل شيء. البداية من الجديد هي الأصعب ولكنها قد تُكلل بنجاح مثل فينسيا،" تقول المخرجة السورية سؤدد كعدان، بعد فوزها بجائزة أسد المستقبل عن فيلمها الأول الروائي الطويل "يوم أضعت ظلي" في مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي في الدورة الـ 75. لم تكن البداية التي تتحدث عنها المخرجة الشابة تخُصها وحدها، ولكنها كانت بداية وعلامة فارقة فى تاريخ السينما العربية عمومًا والسورية خصوصًا، حيث يشارك لأول مرة فيلم سوري فى هذه المسابقة العالمية الضخمة، بل ينجح في اقتناص جائزة أسد المستقبل للأفلام الأولي" لويجي دي لورينتس.
من المؤكد أن تساؤلات كثيرة داهمتني عند الإعداد لهذا الحوار، "يوم أضعت ظلي" ليس فيلمًا ظهر في ظروف طبيعية، بل خرج من رحم الحصار والقصف وحرب تأكل سوريا منذ 7 سنوات، لمخرجة شابة تقدم أولى تجاربها في الافلام الروائية الطويلة، بل وتنجح في أن تُدخل السينما السورية التاريخ من أبواب هذا المهرجان المرموق، وتنافس في المسابقة الرسمية وتفوز بجائزة
عن الجائزة وحكايات الحرب والحب والأمل، والتحديات، تحدثنا مع سؤدد كعدان التي تُقيم في بيروت حاليًا. ترى كعدان: "أن أهمية الجائزة لا تعود فقط لأنها جاءت لصالح فيلم سوري روائي في فينيس، بل لأنها للفيلم الأول الذي يصل لهذه المنطقة، وهي الجائزة التي تمنحها اللجنة بعد مشاهدة كل الأفلام في كل المسابقات الرسمية والموازية في المهرجان. ومن المؤكد أن كل إنجاز للسينما السورية يفتح مجال جديد لها وللأفلام العربية بأن تتواجد في الساحة العالمية. ولعل ذلك يسهل عملية إنتاج الفيلم القادم."
ولدت المخرجة السورية سؤدد كعدان في فرنسا، درست النقد المسرحي في "المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق"، ثم تخرجت من "معهد الدراسات المشهدية والسمعية البصرية والسينماتوغرافية" بجامعة القديس يوسف في بيروت. أخرجت وأنتجت أفلامًا وثائقية لقناة الجزائرية الوثائقية، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، والمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، وصندوق الأمم المتحدة لرعاية الأطفال يونيسف
الفيلم الفائز بجائزة أسد فينيسيا يحكي عن امرأة تبحث عن أسطوانة غاز في دمشق عام 2012، وسط أزمة غاز حادة، ما جعل حياتها شبه مستحيلة مع برد الشتاء القاسي؛ فلا تستطيع حتى أن تُحضر الطعام لابنها. وأثناء بحثها عن الغاز تجد نفسها في المنطقة المحاصرة، وقد انقطع عليها طريق العودة للبيت. هنا تكتشف أن الناس تفقد ظلها أثناء الحرب.
"يوم أضعت ظلي" ليس مجرد حكاية تقدمها مخرجة بعيونها عن الحرب، ولكن كمواطنة عاشت هذه التجربة، عندها يصبح السؤال مالذي تفعله الحرب ليفقد الإنسان ظله؟! تقول سؤدد: "مع صدمة الحرب القاسية، وخسارتنا لأصدقاء، وأماكن، وتهدم أحياء بأكملها واحتراقها شعرت أنه لا يوجد صورة تستطيع أن تعكس ما أشعر به كإنسان يفقد ظله ويمشي على الأرض. شعرت بأنه لا يمكن أن أعود الشخص ذاته بعدها. وأن هذه التجربة والصدمة جماعية، خارج إطار الألم العادي."
تصف سؤدد حالها بأنها "ليست مخرجة الأفكار الآنية"، ربما تفسر هذه الرؤية الفنية تأخر ظهور الفيلم: "بالنسبة لي الإخراج هو لغة سينمائية، هي كاميرا لها مكان محدد من الحدث، ووجهة نظر ناتج من تفكير عقلاني وعاطفي. عندما اندلع الحراك، وبدأت أحداث الحرب تتسارع بقسوة لم أكن أملك هذه المسافة. شعرت بأنني جزء من الحدث، ولا أملك هذه المسافة الموضوعية، وأنني لا استطيع أن أُصور الحدث بسرعة لأنقله من دون مسافة نقدية وجمالية. لذلك كان معظم المخرجين الذين صوروا الحرب من الهواة، لأن ردة الفعل السريعة للتصوير كانت متحررة عندهم من علاقة الكاميرا والسينما مع الموضوع." تُكمل: "ولكن ليس ذلك السبب الوحيد في التأخير في إطلاق الفيلم. فإنتاج فيلم مستقل خارج البلد المحلي، وصعوبة الحصول على تمويل للأفلام - للمخرجين المستقلين الشباب- التي لا ترغب بأن تكون بروبوغندا كل هذا ساهم في التأخير."
التصوير على الحدود كان خطير جدًا
دفعت ظروف الحرب المخرجة للسفر إلى بيروت، التي اتخذتها أيضًا كموقع لتصوير الفيلم. ومن المؤكد أن إعادة بناء موقع تصوير ليمثل وطن منكوب من أجل تقديم صورة قريبة من الواقع البشع يحتاج الكثير: "كانت عملية صعبة جدًا تصوير الفيلم في لبنان" بحسب سؤدد: " فبالإضافة إلى التوتر السوري اللبناني مع الحرب القريبة على الحدود، هنالك علاقات متشابكة ومعقدة أثرت للأسف على عملية الإنتاج وزادت من صعوبة إنجاز فيلم مستقل أول للمخرجة والمنتجة. مصاعب عديدة استطاعت كعدان تجاوزها بمساعدة بعض الأصدقاء، "لأنه كان لدينا رغبة أساسية أنا والمنتجة وهي أختي أن ننجز الفيلم بأي طريقة، وأن نقول هذه الحكاية بغض النظر من كل الصعوبات". وتضيف أنه "كان هناك صعوبة أساسية متعلقة باختلاف العمارة، المكان، الأزياء، والجغرافيا في لبنان عن سوريا، ولأن همي سوري، وهمي أن يشاهد السوري الفيلم ويشعر بصدق الفيلم ورغبته بأن يعكس سورية، فقد كان علينا أن نعيد خلق سورية في الأماكن، وأن نبحث عن أماكن تشبهها في كل أنحاء لبنان، من بيروت، عكار، طرابلس، وجهه الحجر، انفة."
تردف قائلة: "في فيلم مستقل، التصوير في كل هذه الأمكنة هو عبء مادي، ويزيد من ضغط التصوير، ولكنني نسيت كل شيء وشعرت بالفخر عندما سألني معظم السوريين كيف استطعت التصوير في هذه المناطق المحاصرة."
"لايوجد شيء يشبه وجه حقيقي لشخص تحمل لعنات الحرب." هكذا تصف كعدان اختيارها للممثلين. لا تبالغ كعدان في وصفها، فأبطال فيلمها خلفوا ورائهم في سوريا حكايات تصلح دراميًا لفيلم آخر، على رأسهم مثلا بطلة العمل سوسن أرشيد التي تعاني من اللجوء لفرنسا. ومن المتوقع أن موقع التصوير كان مُفعمًا بمشاعر إنسانية عن هذا الوطن الضائع.
تؤكد سؤدد حدسي قائلة: "بما أن معظم السوريين في حالة شتات وهجرة بعد الحرب، كان من الطبيعي أن ينعكس ذلك على الكاستينغ، الذي جرى في عدة بلدان. الممثلين الرئيسين الأربعة محترفين: "سوسن ارشيد، الممثلة الرائعة طلبت اللجوء في فرنسا، ريهام القصار، أول مرة تُمثل أمام كاميرا، وهي ممثلة مسرح موهوبة وساحرة، تعيش في برلين، اويس مخللاتي" ممثل مدهش وعبقري يعيش في بيروت، والنجم الرائع سامر اسماعيل، ما زال يعيش في سوريا.
تُكمل: "عندما بدأ التصوير كانت لحظة لقاء حقيقة لهم، فهم يعرفون بعضهم منذ أيام المعهد العالي للفنون المسرحية، ولكن الحرب قد باعدتهم. ولذلك كان الممثلين أثناء الفيلم فريق قوي متعاون، ومتعاطف، ويساعدون بعضهم لأداء الدور. أما باقي الممثلين فكان معظمهم ممثلين أول مرة من مخيمات اللجوء في لبنان، وهذا نابع من تجربتي كمخرجة وثائقية تعلم أن لا شيء يشبه وجه إنسان حقيقي عانى من الحرب. وكذلك لأنني مؤمنة بقدرة الفن والمشاركة الفنية في مداواة الصدمة وجروح الحرب."
تصف سؤدد ردود الفعل حول الفيلم من النقاد والجمهور في إيطاليا بـ"الممتازة" وتقول: "الجمهور في فينسيا هو معظمه إيطالي مع جمهور المهرجان الأجنبي، ولكن تواصلوا وتفاعلوا مع الجانب الجديد للفيلم، أما في مهرجان تورنتو فهنالك جالية سورية مهمة حضرت الفيلم، وكنت سعيدة بذلك. الكثير من الجمهور السوري فاجئوني بردة فعلهم الحارة، وبعضهم ضمني والدموع في عيونهم، متأثرين بأن هنالك فيلم سوري يحكي عنهم أخيرًا، ببساطة حكاية تروي ما يحدث في البيوت
أرفض تصنيفي كمخرجة نِسوية
"أنا امرأة تكتب عن المرأة، الأمر ببساطة هذا الطرح. في فيلمي القادم، الأب هو الشخصية الرئيسية لكن من وجهة نظر طفلة مراهقة. أستطيع أن أقول أنه في هذه المرحلة من أفلامي الكاميرا عندي ما هي إلا وجهة نظر امرأة من الحياة والمجتمع حولها. قد يتغير ذلك في حال كنت مخرجة لنص مكتوب من غيري". ترد سؤدد على سؤال لماذا المرأة محور أفلامها؛ سواء القصير (خبز الحصار) إنتاج 2016، أو الروائي الطويل (يوم أضعت ظلي).
ترفض سؤدد تصنيفها كمخرجة نِسوية، وتوضح: "أنا اكيد أهتم بقضايا المرأة في الشاشة والمجتمع. لكن لا أَحب التصنيف، لأنها تحدد الإنسان، والأفلام، ولا أجد نفسي فيها. لنُقل إنها أفلام تتحدث عن المرأة متوجهة للكل، وعلى الرغم من رفضها تصنيفها كـ "نسوية" إلإ أنها لا تنفي ذكورية صناعة السينما، وأن رحلتها كمخرجة إمرأة واجهت تحديات كثيرة. "الرحلة صعبة للمخرجات، ليس فقط في الوطن العربي ولكن في كل العالم. التمويل والرواتب وفرص العمل، كلها تتجه في الأول إلى المخرجين الرجال. منح الإنتاج الكبيرة تُمنح للرجال، في حين منح التطوير وما بعد الإنتاج للنساء. يمكنك أن تلاحظي ذلك في كل المنح" تقول كعدان
تُشير في السياق ذاته إلى المجتمع والعائلة، وتقول:" يقفون في وجه المخرجات، بالإضافة إلى صعوبة مجال العمل. وهكذا على المخرجة لا أن تَثبت أنها قادرة لإنجاز فيلم في المجال، ومع فريق العمل، بل عليها أن تتعامل بذكاء مع رفض العائلة لهذا المجال الفني."
تنتقل سؤدد إلى الفرق بين انتقالها من عالم الأفلام الوثائقية وخاصة "سقف دمشق وحكايات الجنة" الذي فاز بجائزة المهر الذهبي من مهرجان دبي السينمائي، وبين وليدها الروائي الأول، قائلة: "الفرق بين تجربتين هو الفرق بين إنسان عاش الحرب، وإنسان لم يعشها" في إشارة إلى إنتاج الفيلم الأول في عام 2010 قبل الحرب.
وتتابع: "كان همي الشخصي مدينتي التي شعرت بأنها تفقد ملامحها، ولكن الأمل والحب يطغى على الصورة. أما فيلم "يوم أضعت ظلي" فتدور أحداثه في الشتاء البارد القاسي في دمشق، حيث الخوف من القادم والمستقبل والنهاية السوداء تسيطر على الفيلم. بما أنني تغيرت كشخص كان لابد لأفلامي أن تتغير، ولكاميرتي بأن تحاول فهم الواقع بطريقة مختلفة. في سقف دمشق الكاميرة ثابتة، أما في يوم أضعت ظلي، فإنها تركض مع الشخصيات لتعكس الحالة العاطفية العنيفة التي تعيشها الشخصيات تحت الحرب.
"شكرًا إنك وصلتي صوتنا للعالم". هكذا هنأت الممثلة السورية كندة علوش على حسابها الشخصي كعدان بأسد فينسيا، أفلام كثيرة عن اللجوء والحرب وغيرها فرضت نفسها على الأفلام بالسنوات الأخيرة ومنها للمهرجانات العالمية. سألتها، مالذي تفعله السينما لشعوبها؟ ترد :عندما تصل حكاية من سوريا بوجهة نظر إنسانية إلى منصة عالمية، فكل السينما السورية تفوز، لأنها توصل صوتنا بشكل آخر عما اعتاد مشاهدته الجمهور العالمي عن سوريا عبر الأخبار. تُصبح عندها معاناتنا غير غريبة للجمهور العالمي ويشعر عندها بأنه لا يختلف عنا. وفي الحقيقة أنا شاكرة وفخورة بكل الأصدقاء والفنانين والممثلين الذين احتفوا بنجاح الفيلم. فإن فاز الفيلم الآن، فهو فوز قادم لفيلم سوري جديد، والمهمة التالية الآن هي أن يصل لعدد أكبر من الجمهور ولا يتحقق ذلك إلا بجمهور عريض يساعد ويدعم الفيلم".
قليل من النور والحب يدخل فيلمي القادم
"نزوح" هو عنوان فيلم المخرجة القادم، بعد فوزه بجائزة Baumi في برلين لتطوير نصوص الأفلام قبل عدة شهور، يبدو أن الحرب ستكون حاضرة بأفلام المخرجة حتى تعود سوريا بسلام، تؤكد كعدان: "سأتحدث عن الحرب الآن، لأنني أعاني منها، وجزء من نتائجها. لا يمكن أن أتحدث عن شيء آخر الآن. في فيلمي القادم (نزوح) قصة مختلفة، رغم إطاره الحربي المشابه ليوم أضعت ظلي، ولكن هنالك كوميديا سوداء، نوع من الأمل والابتسامة ضمن الدمار.
يتناول الفيلم قصة عائلة ترفض النزوح والخروج من منزلها في ريف دمشق بالرغم من القصف وحتى لو تهدّم الحي كُلّه، يسقط صاروخ على منزل العائلة ويُغيّر حياتها كليّا. فعندما يتفجر سقف بيت "زينة" بطلة الفيلم، تنام لأول مرة تحت السماء، وترى النجوم، وتنتبه إلى أبن الجيران الذي يسكن في البناء المجاور. قليل من النور والحب يدخل إلى الفيلم."
قبل إنهاء الحوار كان يشغلني سؤال أخير، إنساني وليس سينمائي؛ متى يستعيد المواطن السوري ظله؟ وهل عندما يعود ظله سيجده نفس الشخص قبل أن يُغادره؟! تحرر السؤال من لساني، وقابلته كعدان بالقول: "هذا سؤال صعب ومبكر. علينا أن ننتظر لتنتهي الحرب، وبأي طريقة تنتهي لنعرف."
المصدر: عربية VICE