مسرحية كحل عربي.. الهجرة من السواد
حاتم محمودي
هل يمكن للمسرحي نثر الجمال وهو يحيا في أتون الجحيم؟ كيف يمكنه زراعة الحب في برك الكارثة؟ كيف يتجاوز سقوطًا مدويا، لمهرجان مسرحي شرده، حتى يخصب فيما بعد وجوده الإبداعي ببهاء الآلهة وحكمة الفلاسفة؟ كيف له -وهو الذي وجد نفسه حافيًا ينتعل الأشواك- أن يبذر دمَه طاقة بركانية هائجة وجدت اشتغالها في عرضه المسرحي الذي سنشاهده فيما بعد؟ كيف يقيم المسرحي عراكًا ضد المستحيل، ويحول كل واقعة تفصله عن تقديم عمله الإبداعي إلى تقنية عناد من أجل تشغيله، كما لو أن ظروف العرض برمتها جاهزة؟
طبعًا، نحن هنا سنتحدث بشكل سافر عن العرض المسرحي (كحل عربي) الذي كتبت نصه وأخرجته سوزان علي، بينما كان الأداء لـ روجينا رحمون. أين تمّ التحضير له وكيف وفي أي ظروف؟ من أين جاء وكيف كانت إقامته هنا في تونس؟ كيف مزق بمنجل العناد وريد العجز الذي اعترضه؟ كيف حول إمكانية فشله، نتيجة الظروف الكارثية التي وضعه فيها مهرجان المونودراما، إلى عرض يحقق الاستثناء؟
جاء العرض من رحم الحرب، منفلتًا عن أشداق الطاعون الذي ضرب سورية. تشكّل هناك كما يتشكل الجنين في بطن أمه خارج الأنظار، ولكن منذ مولده كان عليه أن يحترف لعبة الهجرة إلى الضوء، كي لا يموت.. أن يراوغ الفراغ الذي سلط ضده: هي لعبة خطرة تضع في اعتبارها صيد القدر وتحطيمه، بل فريه فريًا. حُرم العرض من اشتغاله في الصالونات الرسمية، فإذا به يحقق انتصاره في فضاء هامشي بدمشق القديمة. من هناك، حملت المجموعة المسرحية كحلها العربي وجاءت مرورًا ببيروت إلى هنا.. ثمة سردية سياسية حزينة وجدت اشتغالها في انقطاع خطوط السفر بين دمشق وتونس، كما ثمة في الأثناء ضرب من التراجيديا المرة خارج أفق المسرح: لقد تم تغيير إقامة الفريق أكثر من أربع مرات، وتم تغيير فضاء العرض أربع مرات، وتم تغيير توقيت العرض أكثر من مرة أيضًا. في كل ذلك، كان على الكحل أن يهرب نجاحه في كل مرة، وأن يتحول إلى حجر كريم ويقاوم، وأن يعتنق الهجرة دينًا كما لو أنه قدر سُطرَ له بشكل فظيع، وأن يكون لينًا كي يمتص الدمع، وأن يتبع نبوءة نصه المسرحي:
كانت ستي تقول إنو الكحل بيخبي الدموع جوات العين.
هاجر الكحل مثل طائر جريح يسطر بقطرات دمه الطريق إلى مكان العرض، وصل أخيرًا إلى محرقة الركح، في قاعة (ابن خلدون) منهك القوى، لا أحد كان يعلم حينذاك أن هذا الطائر سيحلق من جديد، لا أحد كان يعرف أن هذا الطائر من سلالة عنقاء الرماد، لا أحد كان يصدق ما يراه على الركح، لقد أشعل ابن العنقاء نار وجوده من جديد. ورّطنا نحن الكتاب والنقاد في العجز، فعلها وترك مصيرنا في الكتابة حوله محفوفًا بعشرات الأسئلة: نحن الذين صار يتعبنا كثيرًا وضع عرض مسرحي على طاولة التشريح، إذ أول سؤال يعترضنا، وهنا مقام الصعوبة: من أي زاوية سنتناوله. لقد ارتبط مصيرنا بالكتابة على نحو يجب أن ينجينا من تفاهة من يشاركنا هذا المصير عينه. على هذا الأساس يجب أن نحترس بالقدر الذي يجعل استنطاقنا لعرض مسرحي ما خاليًا من الجريمة.
كحل عربي: رب عنوان لن يفصح بشكل نهائي عن مضامين العرض إلا في آخر مشهد من مشاهده. لا دلالة جاهزة ولا معنى مسبقًا لهذا الكحل. إنه مرتبط تمام الارتباط بكلمات أخرى، وكأنه يحترف لعبة تغيير مصيره على أن يخترع أخيرًا معناه الخاص. لقد كانت دلالته الأولى مرتبطة تمام الارتباط بالدمع؛ إذ من سمات كل منهما الإقامة عند حدود العين: دمع امرأة شطبت الحرب أهلها من الوجود، ودفعت بها دفعًا إلى التفكير بالهجرة واتخاذ قرار السفر، دمع امرأة لم تفصح الممثلة روجينا رحمون -وهي قربان الركح آنذاك- حتى على اسمها. احتكم فيما بعد إلى الدم كضرب من ضروب الإقامة في لعبة الألوان الداكنة: ليس الدم هنا نتيجة الجثث المعلقة على واجهات البيوت، وليس الدم هنا نتيجة سلخ الآدميين ودهس الأطفال وذبح النساء في أزمنة الحرب، إنه دم الغدر، بعد أن فقدت تلك المرأة بكارتها على يد حبيبها الذي ترك جمرة تشتعل في رحمها وغادر مع أخرى، دم يدين سطوة الذكورة ويسعى إلى إسقاط الله التوحيدي لأنه “مذكر هو الآخر”، دم نكتشفه حين ترفع روجينا رحمون على صدرها قماشًا أبيض ملطخًا ببقعة حمراء وتتقدم في اتجاه الجمهور، بينما شرار الغضب ينداح من نظراتها. لم يستقر الكحل عند حدود الدمع والدم، لقد هاجر أخيرًا إلى الماء، ماء ماسورة البيت المعطوبة الذي يضخ من حين إلى آخر، وقفت الممثلة عند نهاية العرض في آخر الركح، لينزل الماء على جسدها برمته، وفي تلك اللحظة المقدسة من التطهر امتزج فيها الكحل بالدم والماء والدمع.
لقد تحول جسد الممثلة، وهي واقفة بشكل جامح، إلى ما يشبه تجاويف النهر، تحول الكحل إلى نهر من الرماد يغزو رقبتها وصدرها وبطنها وساقيها.
هذه التحولات الدلالية التي شهدها الكحل هي التي حددت إيقاع العرض، من خلال انتقال الممثلة من وضعية إلى أخرى، حيث تفصح كل منها عن حالة ما. يبدأ الإيقاع بطيئًا جدًا، وفي اللحظة التي نصاب فيها بالملل من متابعة العرض تأتي المفاجأة؛ إذ يصعد الحدث الدرامي إلى ذروته الأقصى، ومن ثم يعود إلى البطء مجددًا، كي يربط انتقاله ببداية الحدث الموالي؛ حيث يجد اشتغاله في رقعة من فضاء العرض الذي تم تقسيمه وفقًا لوظيفة الديكور، حيث لا وجود إلا لبيت موصدة أبوابه.. أين يسكن الجحيم، تلفزيون يخبر بنبأ موت أهل المرأة، فساتين وصور معلقة وسرير وكرسي ومرآة، أما الموسيقى فقد راوحت بين دلالتين: الأولى كقادح للحب والرقص، والثانية كقادح للنواح والندب والصراخ.
ليس الكحل هنا ما يوضع في العين. إنه واقعة دلالية تفجر ما يحدث الآن في راهننا العربي، إنه جسد تلك الشخصية التي لعبتها روجينا رحمون، وكتبتها سوزان علي، نصًا وفرجة. وليست تلك الشخصية (التي تفتقر إلى اسم) امرأةً بعينها، لقد تحولت بدورها إلى مجاز يحيلنا إلى نهر الرماد العظيم والمرعب والمخيف، هذا الذي تخطى سورية إلى معظم البلدان العربية، كحل عربي: كذا يفصح العنوان.
يأتي قرار الرحيل الذي استقر عليه العرض مرتبطًا بحركة الرماد في ذلك النهر الذي يسيل.
كأن قدرنا أن نتطهر من الكارثة بالسباحة في الظلام والسواد، أو لماذا تمّ تشويه هذا النهر؟
إنها الحرب التي جلبت دمعًا من سماته الملوحة والجفاف. إنها الخيانة الذكورية وأجهزتها الأخلاقية المرتبطة بالدم، ومن سماتها إجهاض الحب، إنها البيوت التي هجرها سكانها فتعطلت تقنية السكن في تفاصيلها، ومن سماتها الثقوب كماسورة الماء. يهاجر النهر في مجرى تفاصيل الجسد الأنثوي للشخصية، مشطوبة الاسم، فتقرر بدورها الهجرة كما لو أنها النهر عينه.
كذا كانت هجرة العرض -كحل عربي- محفوفة بالصعاب منذ أول عرض له، ومنذ مجيئه إلى تونس، وكذا كانت رسالته ومواضيعه: ليس عليه إلا أن يتحول إلى سائل يمتد بسواده على الجميع: ألم نكن نعرف أن الأسود تحن إليه كل الألوان مثل ثقب يمتصها؟ أليس البدء، بدء التكوين ونشأة البشرية، كان وليدًا من الظلمات؟
ليس الكحل واقعة سوداوية تشرع ليأسنا، إنه إشارة إلى مولد النور من رحم العماء.
2019-06-24
المصدر: شبكة جيرون الإعلامية