الذكرى الأولى لرحيلها.. ريم بنا غزالة فلسطين
"صوتي الذي كنتم تعرفونه توقف عن الغناء الآن، وربما سيكون هذا إلى الأبد".
كانت هذه كلمات امرأة ذات شعر أسود طويل، تلف نفسها بأوشحة ملونة ومزركشة، وترتدي الزي الفلسطيني التقليدي، هكذا كانت ريم بنا، كما يليق بفلسطينية جاءت من رحم المقاومة لتذكّر الجميع بحقهم في الحياة، وصدق الأمل، إذا أخلصوا النية للوقوف في وجه المعتدي، موقنين بأن نصرتهم للحق وشجاعتهم هما طوق النجاة.
نضال ريم كان دائم الحضور، لا بكلمات أغنياتها فحسب، بل وفي حياتها العادية، فإن كانت قاومت الاحتلال الصهيوني بفنها، فهي أيضا قاومت المرض الذي هدد بقاءها، وقاومت خسارتها صوتها الذي هو سلاحها الأكبر والأهم، رافضة أن تسقط في جوف اليأس.
"أتعامل مع مرضي كالأم التي ولدت طفلا مشوها أو معوقا، ولا تستطيع أن تتخلى عنه، بل تحتضنه وتساعده وتقدم له العلاج ليتعافى من الإعاقة".
قبل عام من الآن، رحلت الفنانة الفلسطينية ريم بنا، عن عمر ناهز 52 عاما بعد صراع طويل مع مرض السرطان استمر تسع سنوات، ومع أنها هزمت المرض في جولاته الأولى، ولم تيأس أو تخش مواجهته كلما عاد ليهاجمها، إلا أنه لم يلبث أن انتصر على روحها الخفيفة وكيانها النقي.
وبقدر ما كان خبر وفاتها متوقعا، خاصة أنها حاربت مرضها على مرأى ومسمع من الجميع عبر تدويناتها وظهورها الإعلامي، فإن ذلك لم يقلل فجيعته، حتى أنه أحدث هزة في الوسط الفني والثقافي لفداحة الخسارة، وصنع ثقبا بحجم الوجع بقلوب جموع محبيها، سواء الجمهور العادي أو المناضلين الذين اتخذوا صوتها وأغنياتها وقودا يشعل حماسهم ويزيدهم إصرارا على المقاومة.
خاصة أنها لم تكتف بكونها صاحبة قضية، بل ميزها كذلك نجاحها في الامتحان الذي فشل فيه كثيرون، حين اندلعت ثورات الربيع العربي، وراهن كثير من الفنانين على الأنظمة الديكتاتورية. وعلى العكس، جاء موقف ريم بنا عند حسن ظن جمهورها، فلم تخذلهم واستمرت بالوقوف في وجه الظلم والدعوة للثورة عليه.
لحظة السكون
"في البداية، شبهت السرطان بالاحتلال، وبالتالي فكرت أنني لن أسمح للسرطان بأن يحتل جسمي، وكما أحارب الاحتلال سأحارب المعاناة التي أمر بها كمريضة". كما قالت ذات مرة.
كان فراس بنا -شقيق ريم- هو أول من أعلن خبر الوفاة عبر حسابه، تلاه نعي والدتها، الذي قالت فيه "رحلت غزالتي البيضاء خلعت عنها ثوب السقام ورحلت، لكنها تركت لنا ابتسامتها تضيء وجهها الجميل، تبدد حلكة الفراق". وهو ما أحدث تفاعلا مع الخبر من كل حدب وصوب.
بداية من إيهاب بسيسو وزير الثقافة الفلسطيني الذي كتب "لن أقول عن ريم بنا رحلت، ولكنني سأقول إن هذه الأخت الفلسطينية الغالية اختارت أن تحلق فجر هذا اليوم مع الملائكة في سماء الوطن".
وصولا إلى وزارة الثقافة الفلسطينية التي عقبت قائلة "ريم بنا شكلت رمزا ملهما للنضال ضد الاحتلال، وحملت فلسطين دوما بصوتها".
ردود الفعل السابقة تفسر توافد مئات الفلسطينيين على جنازتها، حيث أرادوا إلقاء نظرة الوداع الأخيرة على جثمانها، ومرافقتها نحو وجهتها الأخيرة، وهم يرددون أغانيها للحرية والكرامة والنضال.
اهتمت ريم بقضية وطنها وتوصيل صوتها للمعتقلين والأسرى مما جعلها رمزا للنضال الفلسطيني (الجزيرة)
أثر الفراشة الذي لا يزول
اشتهرت ريم بالغناء للوطن، واختياراتها المستمدة من التراث الفلسطيني الذي أصرت على مزجه بالموسيقى الحديثة، كذلك حرصت على الغناء للأطفال؛ فكانت النتيجة: "ألبوم قمر أبو ليلة" عام 1995، و"ألبوم نوار نيسان" عام 2009 المهدى للأطفال الفلسطينيين اللاجئين.
لم تهتم ريم بالشهرة أو المادة، وإنما بالقضية وتوصيل صوتها للمعتقلين والأسرى وسكان المخيمات، ليصبح لهم ونسا ونافذة مفتوحة على الأمل، مما جعلها رمزا دائما للنضال الفلسطيني، مما منحها لقب "صوت القضية".
كذلك لم تلتفت للموسيقى الشائعة أو الكلمات الدارجة، وفضلت اختيار مواضيعها بعناية، حتى أنها لحنت الأشعار التراثية، وفعلت ذلك مع قصائد محمود درويش وتوفيق زيّاد وسميح القاسم، فجاءت أغانيها مزيجا من الوطنية والثورية في إطار شاعري.
وهو ما أهلها للفوز بالكثير من الجوائز، بجانب تكريمها، فاختيرت شخصية العام وسفيرة السلام في إيطاليا عام 1994، وشخصية العام من وزارة الثقافة التونسية عام 1997، وشخصية فلسطين الثقافية عام 2016.
أصدرت بنا خلال مشوارها 13 "ألبوما"، وبعد شهر من وفاتها طرح ألبومها الأخير "صوت المقاومة" الذي ضم 15 أغنية، وتجسد فيه روحها المحاربة، إذ جاء بعد إعلانها الاعتزال عام 2016 إثر تعرض أوتارها الصوتية لشلل جزئي.
وها نحن بعد عام من رحيلها، ما زلنا نرثي إحدى أفضل الأصوات الفلسطينية، وواحدة من أكبر الناشطات والمناصرات لثورات الربيع العربي، التي وإن رحل جسدها، فصوتها حي لن يموت، وسيظل من بعدها ينير ظلمات عالمنا الموحش.
ياسمين عادل
2019-03-24
المصدر: الجزيرة