أزمة الليرة التركية… عودة إلى الجذور ونظرة إلى المستقبل .. بقلم : يحيى السيد عمر
بصفة عامة تعد قضية التدني المتسارع لقيمة الليرة التركية من أكثر القضايا التي تأخذ حيزاً واسعاً من النقاش والتحليل. سواء على مستوى المجتمع التركي وعلى مستوى النخبة الاقتصادية. وذلك لأن هذا التدني يؤثر على معيشة الأفراد. ولكونه يعد قضية اقتصادية يجب تحليلها والوقوف بدقة على أسبابها الحقيقية. ولاحقاً تقديم حلول لها.
ما أبرز المراحل التاريخية التي مرت بها الليرة التركية؟
في الواقع يمكن وصف الليرة التركية بشكل عام بأنها من العملات ضعيفة الاستقرار. فتاريخها مليء بالتذبذبات الحادة. ووصلت في بعض المراحل لقِيَم متدنية غير مسبوقة. إذ تم في نهاية القرن الماضي طباعة أوراق نقدية من فئة المليون ليرة. وهو ما يوضّح بشكل جلي مقدار التدني الذي بلغته.
لكن شهدت الليرة التركية استقراراً نسبياً بين عامي 2005 و2017م. وعلى الرغم من أنها خسرت في هذه الفترة بعضاً من قيمتها إلا أنها كانت خسارة متدرجة وضمن الحدود الطبيعية. إلا أنه وبدءاً من عام 2018 بدأت تتدنى بشكل متسارع وفي محطات زمنية منفصلة.
بالتالي حققت الليرة في شهر نوفمبر / تشرين الثاني الحالي خسارة حادة. إذ خسرت ما يقارب 22% من قيمتها. وهو ما أثر سلباً على مستوى الدخل السائد إضافة لتأثر مستوى الأسعار. ناهيك عن ارتفاع مستوى القلق الشعبي حول مستقبل الليرة.
حاليًا تنتشر العديد من الأفكار والتحليلات حول سبب تدهور الليرة. وبعض هذه التحليلات تعوزه الدقة. سيّما أن البعض يعزو هذه الأسباب لضغوط خارجية أو لخروج الاستثمارات الأجنبية أو لأسباب سياسية. بينما يعتقد آخرون أن هذا التدني مقصود من قبل الحكومة التركية لتحفيز التصدير. وغير ذلك من الآراء والتحليلات العلمية أو الشعبية.
ما أسباب تدني قيمة الليرة بين الحقيقة والوهم؟
عمومًا تنتشر بعض التحليلات لأسباب تدني الليرة والتي تفتقر لأي دليل مما يجعلها غير ذات أهمية. وفي المقابل هناك تحليلات أدق إلا أنها غير كافية وعادةً ما يتم فيها الخلط بين السبب والنتيجة. فعلى سبيل المثال يقول البعض بأن خروج الاستثمارات الأجنبية من تركيا هو السبب المباشر لتدني الليرة. وهذا الأمر صحيح لكنه غير دقيق.
في الحقيقة أثَّر خروج بعض الاستثمارات الأجنبية من تركيا على قيمة الليرة. ولكن لا يمكن القول بأن السبب الجوهري لتدني الليرة هو خروج هذه الاستثمارات. فالمنطق العلمي يحتّم التساؤل عن سبب خروجها. فلماذا دخلت في البداية رؤوس الأموال الأجنبية ولِمَ خرجت لاحقاً. إن تفسير هذا الأمر قد يقودنا للوقوف على جوهر المشكلة.
كيف نفهم جذور أزمة الليرة التركية؟
إن رحلة البحث عن جذور أزمة الليرة التركية تحتّم العودة لقبل عقد ونصف. وتحديداً إلى الأزمة المالية العالمية التي عصفت بالاقتصاد العالمي عام 2008م. وحينها سبّبت هذه الأزمة ركوداً حاداً في عدد كبير من دول العالم. وللخروج من هذا الركود فرضت هذه الدول الفائدة الصفرية لتحفيز الاقتصاد.
الفائدة الصفرية هي قرار من البنك المركزي يُلزم البنوك العامة والخاصة باتباع سعر فائدة مساوياً أو قريباً من الصفر. وعند هذه الفائدة شبه المعدومة يتشجع الأفراد والشركات على التوسع بالاقتراض. فالاقتراض يساعد الشركات على تمويل الإنتاج ويساعد الأفراد على الاستهلاك. فيتحفز الإنتاج والاستهلاك وتتحرك الدورة الاقتصادية وينتهي الركود.
بناء على ذلك وفي ظل الفائدة الصفرية كانت دول عديدة تفرض فائدة مرتفعة نسبياً. ففي عام 2008م وبينما كانت الفائدة في بعض الدول الغربية 0.25% كانت في تركيا 17%. وهذا الفارق الكبير دفَع الأفراد والشركات الغربيين إلى الاقتراض من بلادهم واستثمار أموالهم في تركيا للاستفادة من سعر الفائدة المرتفع.
ثم في أعقاب أزمة عام 2008م تلقت تركيا أموالاً ضخمة من الخارج وغالبيتها بالدولار الأمريكي. فتحفز الإنتاج وحقّقت البلاد نمواً اقتصادياً متسارعاً. وفي ذات الوقت وللاستفادة من فرق سعر الفائدة قامت الشركات الخاصة التركية بالاقتراض من الخارج. كل هذا دعم الاقتصاد التركي.
لاحقاً وبعد الخروج من أزمة عام 2008م بدأت معدلات الفائدة في الدول الغربية بالارتفاع. وفي ذات الوقت بدأ سعر الفائدة التركي بالانخفاض. ففي عام 2016م كان سعر الفائدة في تركيا 7%. وفي الدول الغربية ارتفع ليصل إلى 2.5%. فلم يعد الفرق بين السعرين الغربي والتركي بالفرق المحفّز للاستثمار في تركيا. وهذا ما دفَع البعض لإخراج أمواله من تركيا وإعادتها إلى بلدها الأصل
إن الفائدة الصفرية في الدول الغربية حفّزت شركات القطاع الخاص التركية على الاقتراض من الخارج وبكميات كبيرة. وهو ما عزّز النمو الاقتصادي التركي سابقاً. إلا أن المبالغة في الاقتراض أدى لظهور أزمة ديون خارجية. ففي عام 2018م بلغ إجمالي ديون القطاع الخاص التركي 250 مليار دولار. وجزء منها كان مستحق السداد في ذات العام.
كيف تم إغراق السوق بالليرة التركية؟
بصفة عامة ولفهم كيفية تحديد سعر العملة لا بد من النظر إليها على أنها سلعة. وبالتأكيد فإن أي سلعة عندما تكثر في السوق تنخفض قيمتها وعندما تقل في السوق تزداد قيمتها. والليرة التركية عانت من هذه القضية. فقد ازدادت كميتها في السوق بشكل يفوق الحاجة الفعلية لها. مما عزّز تدهور قيمتها.
وفي الوقت نفسه بعدما كان سعر الفائدة مرتفعاً في تركيا خلال الفترة التي أعقبت أزمة عام 2008م تم تخفيضها لاحقاً. ففي عام 2016م كان سعر الفائدة 7%. وهو ما حفَّز الاقتراض بالليرة. وبالتالي بدأ السوق التركي يعاني من كثرة الليرة مقابل ثبات كمية الدولار. فبدأت الليرة تفقد قيمتها بشكل تدريجي.
من ناحية أخرى أتت أزمة كورونا لتزيد من عمق أزمة الليرة. فالإغلاق الاقتصادي سبَّب تراجع الإنتاج والتصدير وبالتالي تراجع كمية الدولار في السوق. وتوقفت السياحة ليخسر الاقتصاد التركي 34 مليار دولار سنوياً. وفي ذات الوقت قامت الحكومة التركية بتقديم مساعدات وإعانات للمتضررين. فبلغت قيمة المساعدات المباشرة 200 مليار ليرة تركية.
بالإضافة إلى ذلك فإن ضخ كمية 200 مليار ليرة تركية في السوق خلال عام واحد أدى لإشباع السوق بالليرة. وهو ما جعل الأزمة تتضخم وإن لم تكن ظاهرة بوضوح. لكن الأزمة كانت قد بدأت بالتشكل ولم تكن بحاجة إلا لفرصة لكي تظهر للعلن.
ما علاقة الأسباب السياسية بأزمة الليرة؟
في الحقيقة لا يمكن القول بأن للأسباب السياسية دوراً مباشراً في أزمة الليرة التركية ولكن لها دور غير مباشر. فلولا وجود أسباب اقتصادية أساساً لما تمكّنت الأسباب السياسية من لعب دور. فالضعف الاقتصادي لليرة ساعد خصوم تركيا على الدخول على خط الأزمة والعمل على مفاقمة الوضع.
بصفة عامة دخلت تركيا في خلافات سياسية مع عدة دول في العقد السابق. ومنها على سبيل المثال الولايات المتحدة الأمريكية التي قامت بفرض عقوبات على الاقتصاد التركي. وذلك بهدف الضغط على الصادرات التركية وزعزعة ثقة المستثمرين بالاقتصاد التركي ودفعهم للخروج مع رؤوس أموالهم.
زيادة على ذلك وخلال أزمة الخليج وحصار قطر وقفت تركيا مع قطر سياسياً. مما أدى لخسارة حلفائها الاقتصاديين في الخليج. وفي ذات الفترة تعرّضت الليرة التركية لمضاربات حادة ممولة من الخارج. وخسرت في يوم واحد من عام 2018م أكثر من 17% من قيمتها. وهو ما دفع بعض السياسيين الأتراك للقول بأن الليرة التركية تتعرض لهجوم.
كيف يؤثر سعر الفائدة في زيادة المشكلة أو حلها؟
إن تتبُّع حركة سعر الفائدة في تركيا خلال العقد السابق يوضح مقدار التذبذب الحاد فيه. فهو دائم التحرك صعوداً وهبوطاً. وهذا الأمر يعد مؤشراً سلبياً على عدم استقرار السياسة النقدية التركية. وهو ما يضعف ثقة المستثمرين بالاقتصاد ويقودهم للإحجام عن الدخول باستثمارات جديدة.
بالإضافة إلى ذلك ففي السنوات الثلاث السابقة قام البنك المركزي التركي برفع سعر الفائدة عدة مرات متتالية. ليصل إلى 22% عام 2019م. وهذا الرفع كان يهدف للتقليل من كمية الليرة التركية التي أشبعت السوق.
كانت وجهة نظر المركزي برفع سعر الفائدة أنه سيؤدي إلى تقليل الاقتراض وإلى اجتذاب الأموال التركية من السوق وإيداعها في البنوك. وبذلك تقل كمية الليرة في السوق وتتحسن قيمتها. إلا أن معدل التضخم المرتفع لم يجعل من سعر الفائدة جاذباً للإيداع.
في الواقع عندما يكون سعر الفائدة 22% والتضخم 16% فهذا يعني أن رأس المال يكسب سنوياً 22% من قيمته عند إيداعه في البنك. لكنه يخسر 16% من قيمته بسبب التضخم. فالمكسب الحقيقي يكون 22 – 16 = 6%. ونسبة 6% لا تعد نسبة محفّزة للإيداع. ولذلك لم تنجح هذه السياسة.
من جهة أخرى سبَّب رفع سعر الفائدة زيادة تكاليف الاقتراض على الشركات والأفراد الراغبين بالعمل والاستثمار. فنسبة فائدة 22% تعد مرتفعة مما يضغط على عوائد المشاريع. ولذلك أدّى رفع سعر الفائدة إلى تضرر الإنتاج وزيادة مستوى البطالة.
كما أن تباين وجهات النظر بخصوص سعر الفائدة بين إدارة المركزي التركي وبين الرئاسة التركية أدت لزيادة التذبذب في سعر الفائدة. فالمركزي يصرّ على رفعها كحل فعليّ للتضخم. بينما الرئاسة ترى أن خفضها يؤدي إلى تقليل كلفة الاستثمار وبالتالي التشجيع على العمل والإنتاج.
في الحقيقة لا يُعد رفع سعر الفائدة فقط حلاً لأزمة الليرة. لأن رفع سعر الفائدة قد يحسّن الليرة التركية وبسرعة. لكنه حل مؤقت سرعان ما تتلاشى نتائجه بفعل التضخم. ويمكن تشبيهه بالمُسَكِّن الذي يُعطَى للمريض فهو يريحه من ألمه. ولكنه لا يعالج مرضه. وسرعان ما يزول أثر المُسَكِّن حتى تعود الأوجاع من جديد.
إن خفض سعر الفائدة سيسبب انخفاضاً إضافياً في قيمة الليرة كونه يعني ضخ المزيد من الليرات في السوق المشبع أصلاً بالليرة. لكنه يعد انخفاضاً مرحلياً. فالخفض يهدف لمعالجة الأسباب لا النتائج. فهو يهدف لتقليل كمية الليرات في البنوك وضخها في السوق لتحفيز الإنتاج والعمل.
من غير الممكن أن تبدأ نتائج خفض سعر الفائدة بالظهور قبل 6 أشهر. كونه يعد حلاً متوسط الأجل. ولذلك من غير المستبعد أن تشهد الليرة في الفترات القادمة هبوطاً إضافياً. ولكنه هبوط مؤقت سرعان ما يبدأ بالتلاشي على حساب التحسن حالما تزداد وتيرة الإنتاج.
لا يجوز التوقع بأن خفض سعر الفائدة يعد حلاً سحرياً لا يحمل أي نسبة فشل. فهو ليس إلا أداة نقدية يجب أن تتبع بإجراءات أخرى. فخفض الفائدة قد يؤدي إلى زيادة الاقتراض وتحويل الأموال المقترضة لشراء الدولار والمضاربة على الليرة. وهو ما يعني ضربة قاصمة لها.
لذلك لا بد من سَنّ قوانين مصرفية تحول دون انتهاء القروض في سوق المضاربات. وتوجيهها إلى سوق العمل والإنتاج. كما لا بد من فرض قيود على تحويل الليرة إلى دولار من خلال وضع حد أعلى للقِيَم التي يمكن استبدالها بالدولار. كأن لا يسمح للفرد بتحويل أكثر من 1,000 ليرة تركية إلى دولار في الشهر الواحد.
ما مستقبل الليرة التركية؟
في نهاية المطاف إن مستقبل الليرة التركية ليس محصوراً بعامل واحد. وهو ما يجعل تقدير مستقبلها أمراً ليس باليسير. لأن سعر الفائدة والتصدير والاستيراد وفاتورة الطاقة والاستثمارات الأجنبية وغيرها تلعب دوراً في تحديد قيمتها.
بناء على ذلك يمكن القول بأن تحفيز الإنتاج من خلال خفض سعر الفائدة يعد أحد الحلول الممكنة. كما أن الاستكشافات الغازية من شأنها دعم الليرة من خلال تقليل فاتورة استيراد الطاقة التي ترهق الموازنة التركية.