من قتل الكنداكة السورية؟
"قبل العودة بقليل"
بين صوت مي سكاف المخنوق، في آخر فيديو لها من منفاها القسري، وبين هتافات السودانية، آلاء صلاح، الذي علا وسط أهلها، وفي عاصمتها مجلجلاً للثورة، فرق شاسع، يفصّل سعة الهوة، بين تجربتين تختصران معاناة وطن، ومأساة شعب.
اعتلت آلاء سطح سيارة وسط حشد متظاهر، آمنة على حياتها، غير متوجسة من اعتقال وشيك، أو اغتصاب، أو إبعادٍ قسري عن أرضها، في حين دفعت نساء سوريا ثمناً باهظاً جداً لا يتناسب أبداً مع مطالبهن بحق مشروع.
لم أستطع النظر إلى تجربة السودان، إلا بعين الغبطة تارة، والحسرة دائماً، على ما عانته نساؤنا الثائرات، وثوارنا السلميون، لا أدري ما الفارق بين كنداكات السودان وكنداكاتنا السوريات؟
هل هو الجغرافيا التي حكمتنا بجوار عدوٍ محمي من العالم أجمع؟ أم ديكتاتورية سورية ليس لها مثيل بين ديكتاتوريات العالم؟
ملكات الثورة اللواتي تربعن على قلوب السوريين، واللواتي تفنن النظام والمتأسلمون معه، بمنحهن نهاياتٍ غير مشرقةٍ على الإطلاق.
هل ترانا نحن من قتل كنداكات حراكنا؟
هل قتلناهن بعدم الالتفاف حولهن مثلاً؟ أم أن ما يصح بالسودان، ورغم تشابه الديكتاتوريات العسكرية، لا يمكن سحبه على سوريا؟
استولى البشير على الحكم منذ العام 1989، ومع ذلك لم يحتمل شهوراً تسعة من انتفاضة شعبه، في حين لم يكتف الأسد الأب بالاستيلاء على السلطة في سوريا منذ عام 1970 بل أورثها لابنه ليطرق حكم هذه العائلة أبواب النصف قرن، وهم على أمل البقاء نيف آخر من قرن جديد، ولم يتوان عن تدمير البلاد في سبيل البقاء.
أذكر قول أمين معلوف "في بلادنا تقوم الثورات باسم الشعب، ويجد الشعب نفسه مطرودًا ومرميًا على الطرقات"، فتقفز إلى ذاكرتي صور كثيرة، صورٌ تؤصل شعوري بالعجز أمام كل هذا الفيض من الحزن.
منها صورة فدوى سليمان عندما تصرح مراراً: أنا سورية مثل بقية الناس، وإن كنت أنتمي لذات طائفة الأسد.
وصوتها الهادر في حي البياضة في حمص وفي بابا عمر (لا سلفية ولا اخوان نحن دولة مدنية) هي العلوية، تهتف وسط حي سني في حمص، وجموع سنية ثائرة، هي تهتف ويهتف المتجمهرون خلفها "واحد واحد واحد الشعب السوري واحد"، وينتهي بها الحال منفيةً لتموت كمداً ومرضاً في غربة لم تخترها.
ولم تتمنَّ مي سكاف سوى الموت في سوريا، لتموت سريعاً في باريس بجرعة زائدةٍ من القهر.
هكذا بدأت الثورة، وهكذا أردناها، لكن النظام كان سباقاً بخطوة عندما أفرج عن قيادات المتشددين الإسلاميين من معتقلاته، ليطلقهم في البلاد، فتأخذ الثورة طريقاً منحرفاً عن مسارها، خدم هذا الانحراف حكمه، وحقق ما تمناه سريعاً بتحويل الثورة إلى حرب، والثوار إلى ميليشيات مسلحة.
النظام الذي أطلق الرصاص واستمر لسنوات ثمان بالتدمير والتنكيل، لم يكن يخشى، السلاح، ولا التسليح، ما كان يفزعه إلا الأصوات الحرة، الأصوات المنادية بالوطن فلاحقهم وقتلهم واغتال حلمهم قبل أن يغتال أجسادهم.
غياث مطر، خرج يوزع الزهور والماء، على قوافل الجيش السوري، تعبيراً عما تحمله هذه الثورة من قيم الكرامة ولحمة الشعب، فقضى تحت التعذيب في سجون الأسد.
رحاب علاوي طالبة الهندسة المدنية ذات الثلاثة والعشرين ربيعاً، الكنداكة التي تشبه كنداكة السودان، لم تقترف ذنباً سوى مساعدة النازحين إلى العاصمة، وإغاثتهم، فاختفت من على أحد الحواجز، لتظهر بعد سنوات، كصورةٍ مسربةٍ لجثة، شهيدةً تحت التعذيب مكللاً جبينها برقم أثمن من كل تيجان الأرض.
ومن لم يقدر عليه النظام قدر عليه المتأسلمون، المسلحون باسم الثورة، مثل تغييب رزان زيتونة وسميرة خليل ورفاقهما.
كبرنا وفي أذهاننا صورة الوطن "ويا سوريا عزك دام" لنكتشف لاحقاً أن صورة الوطن كانت صورةً زائفة أخفاها ق"ائد الوطن" خلف وجهه المبتسم وكفيه المعتصرين بعضهما، في صورة حفظها السوريون عن ظهر قلب.
ولم نكن نحن أكثر من لازمة ضرورية ليجد الحاكم من يحكمه، ولا ضير أن يتخلى عنّا ببساطة إذا ما سببنا له أي إزعاج.
لماذا لم يتنحَّ الأسد بعد سنوات طوال من الثورة، كما فعل بقية زعماء دول الربيع العربي؟
لماذا لم تقتل شعوبهم كما قتل الشعب السوري؟
لماذا ما إن يصل العسكر إلى الحكم حتى تصبح البلاد تركة لهم ولأولادهم من بعدهم؟
أسئلة قد لا نستطيع الإجابة عليها الآن لكننا بالتأكيد سنجيب عليها يوماُ، ولكن على أرض الواقع فما زلنا هنا، وسنبقى، وستبقى هذه البلاد على اسمها الذي نحب "إنها سوريا العظيمة وليست سوريا الأسد".
مزن مرشد
2019-04-13
المصدر: زمان الوصل