منظمات المجتمع المدني "تأثير في واقع بائس أم تأثر فيه"
تطور مفهوم المجتمع المدني عبر القرون بشكل كبير، وكان العنوان محطّ اهتمام الكثير من الفلاسفة والمنظرين في أوروبا منذ عصر التنوير في أوروبا مروراً بكل التحولات التي شهدتها القارة العجوز في نظامها السياسي والذي رافقه تغييراً في نسيجها المجتمعي ما فرض تطوراً موازياً في المفاهيم والتعريفات.
إلا دولة مثل سورية "والكثير من الدول الأخرى"، والتي تعيش تحت ظل نظام ديكتاتوري قمعي لم تشهد ظهور أي شكل من كيانات المجتمع المدني بالمفهوم الحقيقي للكلمة كما عرّفها الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي مثلاً: "كل المؤسسات التي تتيح للأفراد الحصول على الخيرات والمنافع العامة، دون تدخل أو توسّط الحكومة، وهو النسق السياسي المتطور، الذي تتيح، صيرورة تمأسُسه، مراقبة المشاركة السياسية." فقد كانت سورية تعيش في ظلام الديكتاتورية وحدها ولا يرى الشعب إلا ما يريد له الاستبداد أن يرى، وكل ما كان يظهر من كيانات تحت مسمى المجتمع المدني كانت تحت سلطة الديكتاتور الأسد الأب/ الابن، وبرعاية أجهزة مخابراته المنتشرة.
ولكن من انطلاق الثورة السورية في آذار 2011، وامتداد مساحة ولكن من انطلاق الثورة السورية في آذار 2011، وامتداد مساحة الاحتجاجات ضد نظام الأسد، بدأت فعلياً أولى بوادر ظهور كيانات المجتمع المدني متمثلة بالتنسيقيات المحلية والهيئات التنظيمية التي كانت غايتها تنسيق الحراك السلمي وتنظيمه، بالإضافة إلى المؤسسات التوثيقية التي ظهرت نتيجة عنف السلطة المفرط في مواجهة الاحتجاجات.
بداية التشكل المنظم:
في أواخر عام 2012 بعد تحول الحراك السلمي إلى التسلح، وبدء تشكل المناطق المحررة، أي الخارجة عن سلطة الأسد، بدأت الحاجة تتزايد لخلق بدائل عن انعدام وجود السلطة المدنية في هذه المناطق، فتطورت الهيئات التنظيمية والتنسيقيات المحلية إلى تشكيل المجالس المحلية، والمنظمات الإغاثية بشكل خاص بسبب تنامي الحاجة في هذه المناطق، وأخذت فعلياً دور الدولة ومؤسساتها في إدارة شؤون المناطق المحررة، ولكنها ما لبثت أن وقعت في مواجهة سلطة العسكر التي كانت تعتقد أنّ الأحقية لها في إدارة المناطق "التي حررتها" وهذا يرجع بالدرجة الأولى إلى غياب الوعي الحقيقي في آلية إدارة المدن والقرى، ويمكن أن يندرج أيضاً في حالة الكثير من الفصائل في محاولة إعادة إنتاج التجربة الوحيدة التي تراها أمامها وهي تجربة "الأسد" الاستبدادية في إدارة الدولة، وهذا ما فسره باولو فرايري في كتابه "تعليم المقهورين" إذ يقول: "إن بعض المقهورين خلال مرحلة النضال بدلا من أن يناضلوا من أجل تحقيق حريتهم فانهم يجنحون الى ممارسة دور القاهرين وأشباههم وهذا المظهر في واقعه انعكاس للواقع المتناقض الذي ظلوا يعيشون فيه فقد حلم هؤلاء بأن يصبحوا رجالا ولكن صورة الرجل ظلت في مخيلتهم هي صورة القاهر لأن هذا هو المعنى المتجسد لمفهوم الانسانية في تصورهم" وكان هذا رهاناً صعباً أمام منظمات المجتمع المدني لا أعتقد أنها حتى اللحظة استطاعت تجاوزه.
التحول نحو شكل جديد:
بطبيعة الحال ومع تنامي حاجات المجتمعات المحلية في المناطق المحررة، لم تستطيع منظمات المجتمع المدني هذه الاستمرار في عملها داخل سورية دون أن تحصل على دعم خارجي في ظل غياب أي مقومات لمصادر الدعم المحلي داخلياً، وكانت هذه الجهات التي تدعم المنظمات هي جهات دولية مهمتها تقديم الدعم للمنظمات والمؤسسات العاملة في مناطق النزاع، وكان أهم وأسوأ ما قامت به هذه الجهات الدولية هو السلسلة الطويلة والممنهجة من الفصل بين منظمات المجتمع المدني، والمجتمع المدني الذي تمثله هذه المنظمات من خلال تقديم دورات السلم الأهلي والتعايش السلمي، والقفز فوق قضية المجتمع المدني الأساسية والتي في صلبها كانت قضية سياسية وإفراغها من مطلبها الأساسي في إسقاط نظام الاستبداد في سورية، وتحويلها إلى قضية إنسانية بحتة تتلخص في معاناة أفواج كبيرة من الناس ليس معاناة سياسية من مصادرة الحريات وتكميم الأفواه والاعتقال التعسفي والتهجير القسري والملاحقات الأمنية، وإنما معاناة لجوء وتشرد في المخيمات ومصابي حرب، وكأن المسبب الأساسي لذلك ليس كون الشعب يعاني من نظام قهري مارس عليه كل أساليب القمع والاستبداد حتى وصل إلى المعاناة الكبرى التي يعيشها، وأسوأ ما في الأمر أن المجرم والمسبب لكل هذه المعاناة لم يكن يذكر بشكل صريح في التقارير الصادرة عن هذه الجهات الدولية والأممية. ولم يكن هذا الخطاب هو المشكلة بحدّ ذاته وإنما انصياع منظمات المجتمع المدني لهذا الخطاب والتزامها بمصطلحاته وقوالبه الجاهزة.
بالإضافة أيضاً إلى انزلاق منظمات المجتمع المدني، والتي تركز ثقلها بشكل أساسي لأسباب عديدة –لسنا في صدد الحديث عنها الآن- وراء الحدود السورية، في منزلق السعي وراء الدعم، فتحولت العلاقة بين هذه المنظمات التي يفترض نظرياً انها تمثل مجتمعاً مدنياً واحداً إلى علاقة ندية في بناء العلاقات، وتقديم المشاريع، كما أنها لم تستطع رغم وضوح عملها، إلى درجة ما، أن تخلق منصة واحدة تجمعها كلّها، لتنسيق العمل والجهود المبذولة، الأمر الذي أدى بالمحصلة إلى ضياع الجهد الكلي الكبير لأن تطبيقه كان فردياً على صعيد كل منظمة وحدها.
والأمر الأخير والأكثر خطراً –باعتقادي- هو التزام هذه المنظمات بما أحب أن أسميه "سوق الدعم" بمعنى أن المنظمات الدولية كانت بشكل دوري تطرح أموالاً لدعم مشاريع تقررها هي، بناء على تعاريفها ومفاهيمها الخاصة بمفردات المجتمع المدني والذي هو بالضرورة تختلف بشكل كامل عن تعاريف ومفاهيم المجتمع المدني في سورية وذلك تبعاً لخصوصية المجتمع المختلفة عن المجتمعات الأخرى، فكانت منظمات المجتمع المدني تقدم عروض مشاريعها بناء على سوق الدعم هذا لا بناء على حاجات المجتمع الحقيقية ما سبب عزلة كبيرة إلى درجة ما بين المنظمات والمجتمع المدني الذي تمثله.
وهذا لا يعني بالضرورة أن هذه المنظمات لم تقدم شيئاً للمجتمع المدني على العكس، فقد كان هناك الكثير من التجارب الناجحة والرائدة والتي استطاعت أن تصنع فرقاً في هذه المناطق رغم كون هذا التغيير أو الفرق الذي صنعته صغيراً إلا أن الأثر هذا لا يمكن نكرانه.
هل كان بالإمكان أفضل مما كان، أو هل يمكن أن يكون أفضل مما كان؟
بلا شك، دائماً هناك حلول وآليات يمكن العمل عليها لتجاوز الأخطاء وإصلاحها، وأعتقد أن أهمها يكمن في كسر حالة العزلة بين المنظمات والمجتمع المحلي، ومحاولة إعادة بناء الثقة مع المجتمع لا من خلال دورات السلم الأهلي وتمكين دورة المرأة –على أهميتهما- إلا أن بناء الثقة يجب أن يتجاوز المصطلحات النظرية إلى تطبيق عملي ينبع من حاجات المجتمع الأساسية، ومعرفة كبيرة في المتطلبات الأهم التي يحتاجها هذا المجتمع حتى تستطيع الوصول إلى نقطة يمكنك أن تطرح عليه عبارات كبيرة مثل السلم الأهلي وتمكين دور المرأة على مجتمع لم يعرف على مدى عقود طويلة سوى القمع والقهر والاستبداد.
كما أن خطوات حقيقية مثل بناء منصة واحدة تجمع منظمات المجتمع المحلي كلها وتنظم علمها وتؤطره في أهداف حقيقية واستراتيجيات واقعية يمكن أن يبنى عليها في المستقبل أمر مهم جداً، بأهمية أن تنعتق المنظمات من التبعية المطلقة لموارد الدعم بل يجب أن تكون هي الموجه الأساسي لموارد الدعم، ومسؤوليتها أن تضع الخطط والمشاريع بما يتناسب مع حاجات المجتمع ومتطلباته. والكثير من المقترحات الأخرى التي قد تحتاج إلى بحث مستقل..
خاتمة:
مهمة منظمات المجتمع المدني في كل الدول وعلى مر العصور، هي أن تكون التعبير الحقيقي عن المجتمع الذي تمثله، وأن تقدم له الفضاءات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي يمكن من خلالها أن يعبر عن نفسه بشكل أكبر، وأن يكتشف نفسه بشكل أعمق، واستطاعت منظمات المجتمع المحلي في سورية خلال الثورة منذ 2011 أن تخلق إلى درجة ما هذا المناخ الملائم للبدء ببناء المجتمع المتحرر من كل قيود الظلم والاستبداد، ولكنها في ذات الوقت ولأسباب كثيرة وقعت في منزلقات خطيرة عاقت دون إتمام هذا الدور الهام في بناء المجتمع والمساعدة على بلورة تغييره وفق التغيير السياسي والمجتمعي العاصف الذي تعرض له بعد الثورة، ولكن بالتأكيد ما زال هناك الوقت لتجاوز هذه المشاكل، وهذا الوقت يجب أن يتم استغلاله بشكل كبير ومكثف، فتضييعه يعني تراكم أكبر من المسؤوليات على عاتق من سيأتي لاحقاً ليبدأ بالتغيير.
الكاتب يوسف موسى
المصدر: صدى المجتمع المدني