غرباء في صحراء عريضة دون أبي وأمي
أبدو فتاة تميل إلى والدها، كانت تلتصق بساقه كتوثيق أنّه يخصّها وحده، وصارت تلتصق بقلبه وصوت سعاله المتعب من التّدخين:
-لازم تخفّف دخّان
-صح وإمك هيك بتقول كمان.
يتّصل على رقم الهاتف الأرضي، فيأتي صوته سريعًا وغاضبًا:
- وين إمّك بتصلها ع تلفونها وبتردّش
-مانت عارف البير وغطاه
فيضحك طويلاً ثمّ ينهي الإتصال منبهًا، بأن تعاود الإتصال به فور عودتها.
في البيت، تعلّمنا احترام أمي على يد أبي، كان صدى صوته يملأ البيت حتّى بعد خروجه: لا تصرخوا في وجه أمكم، قوموا بالمهمّات عنها، لا تتعبها، كن ليّنًا، عليكِ أن تكوني مختصرة حين تغضب وستهدأ بعد قليل، لا داعي للطلبات الكثيرة، أصبحت رجلاً حضّر طعامك لوحدك، ما كان عليها أن تورثكِ طبعها، فالنّار مع النّار، اشتعال لن نستطيع نحن ذكور البيت الأربعة اطفائه مهما حاولنا.
لو اعتاد أبي على تناول طعام العشاء يوميًّا لوحده، دون أن تكون أمّي رفيقته، ولو دخل البيت ولم يشعر نفسه غريبًا في صحراء عريضة إن لم تكن موجودة، ولو ركب سيّارته دون أن تجلس بجانبه كي تنكسر في عينيه وحشة الطّريق، ولو لم تنب أمّي عنه في اجتماعات المدرسة، وزيارة العيادات الطبيّة، والسوبر ماركت، ومحلّات الملابس، والخلافات مع أطفال الحيّ، ما كنّا استطعنا أن نضع أمّي في أعلى منزلة في حياتنا، ما كنّا شعرنّا أن حياتنا تتوقّف على صوت زفيرها، ما كنّا أحببنا العودة إلى البيت بعد المدرسة، وما كنّا تمنّينا أن يهبط اللّيل في كلّ يوم علينا كعائلة، كشعور تستطيع أن تسمّيه عائلة دون تردد.
للأب حصّة الأسد كي تشعر الأمّ أن الأيّام كلها لها، وأنّ هذا الوقت الذي يغزو رأسها على شكل خصلات شيب ليس مخيفًا، وتستطيع أن تكبر وهي تشعر بالأمان والألفة والدّفء، وحين ترى صغارها كبروا وهم يحاولون أن لا ينحني ظهرها، وهم يحاولون أن يثبتوا أنهم ما عادوا مثل القطن، ما عادوا يتمسّكون في وشاحاها، لكن عند أوّل شعور بالضّعف والحزن، يركض أحدهم إلى حضنها مجددًا، فيذوب تعب السّنين، ورغم الدّموع .. تفرح لأنها ما زالت بالنسبة لهم هي الأولى والأخيرة.
2019-03-21
نجوان مصطفى
المصدر: موقع صدى المجتمع المدني