مختلفون ولكن..
لا يكاد يمر أسبوع منذ أن غادرت أجسادنا حدود بلادنا إلا و يسألنا سائلون - و كذلك يُسأل كلُّ حر على وجه الأرض- لماذا أنتم هكذا ؟ لماذا أنتم على هذا النحو من الغرابة؟ لماذا تغرقون أنفسكم في بحر أخبار السياسة الكاذبة؟ لماذا لا تكترثون كغيركم بآخر فلتات الألبسة و التسريحات ؟ لماذا لا تهتمون بأخبار المشاهير و الرياضيين و الرياضيات و الممثلين و الممثلات ؟ لماذا كلما فُتحت صناديق الذاكرة جلستم تستذكرون لحظات القتل الكئيبة و أحداث الحرب اللعينة؟ و لماذا عندما تُذكر أمامكم مواقف منها تضحكون مَرّةً و تبكون أخرى ؟ لماذا أنتم مختلفون ؟
في كل مَرّة نختصر الإجابة المُرّة بصمت و ابتسامة تُخفي وراءها صفحات من آهات و أنات و حقائق موجعة، مُضحكةٍ مُبكيةٍ ، نصمت لأنها ستبدو أمامهم كأساطير و أكذوبات لا يمكن أن تحصل، نصمت لأننا لو أردنا أن نجيب بحقّ ما وسعتنا جلسة ولا جلستين ولا ثلاث، فضلاً عن أن تتسع لها بضع دقائق و سؤال عابر من رجل عابر !
لكن يسرني هذه المرة أن أجيبك صديقي السائل إجابة عابرة كسؤالك، راجياً أن تكون وسيلة لِتَفَهُّمِك لنا، و تفاهُمِك معنا ،و فَهْمِك لطبائعنا، فأقول :
في الحقيقة لا يمكنني أن أكون مثلك، أو بالأحرى لا يمكنك أن تكون مثلي، لأنك لم تواجه البنادق بصدرك العاري، و لم تسمع صوت تكبيرك أعلى من أزيز رصاصها ، و لم يرتعش جسدك من نسمات الهواء المختلطة بأصوات المتظاهرين و هدير أصواتهم ، و لم تجهر بالحق ضد الباطل و يتحول خاؤكَ إلى حاءٍ و أنت تصرخ بأعلى صوتك "حرية".
لا يمكنك أن تكون مثلي لأنك لم تر أبناء بلدك يسقطون صرعى بأيدي جنود حاكمها واحدا تلو الآخر، و لم يُسحب أمامك رجلٌ و يُجرجَر بالسلاسل إلى الزنازين، و لم تُضرب أمام عينيك امرأةٌ مستضعفة، و لا طفل بريء، و لم تعرف من ذلك شيء سوى ما سمعته و رأيته في الأخبار إذا كنت قد سمعته أو رأيته أصلاً !
لا يُمكنك أن تكون مثلي لأنك لم تر دباباتِ بلادك تدهس سيارتك و تهدم بيتك و تمر فوق جثة أخيك، و لم تر الطائرات تهدر و تنقض بصواريخها على حيك و بيتك و مسجدك ثم تحيله خراباً و دماراً حتى لا تعرفَ منه شيئا سوى ما تحمله الأنقاض من ذكريات أو أشلاء !
لا يمكنك أن تكون مثلي لأنك لم تسمع بالحصار فضلا أن تعرف ما هو و ما معناه ، لم تعرف انقطاع الكهرباء لأكثر من دقائق أو ساعات أو بضعة أيام في أسوأ الأحوال حتى تعرف كيف يبدو ضياء النهار و سواد الليل لخمس سنوات بدونها، لم ينخر البرد عظامك لأنك لا تجد ما تستدفئ به و لا حتى ورقا تحرقه فتشعر معه بدفئ المشهد وحسب، لم تملأ خزانات بيتك من مياه الكباس، و لم تذق طعم الخبز من شعير و لا مرارة ما يسمى "خبزا" من علف الدواب الذي يبقى طعمه في فمك حتى مماتك كأنه الحنظل.... بالمختصر لم تعرف معنى الجوع عندما يصل طعمه مرحلة الكفر فتستسهل دونه كل الطعوم !
لا يمكنك أن تكون مثلي لأنك لم تحمل بندقيةً و لا قلماً ولا مشرطاً لتدافع عن أرضك التي يراها الآخرون سجنا لا بد من الخروج منه (و هل سمعت من قبل من يقاتل لأجل أن يبقى في سجنه! ) ، لا يمكنك لأنك لم تر دماءك و لا دماء أهلكَ و أصحابكَ و أحبابكَ تُخضّب جسدك ، و لم تشعر ببرودته على جسدك و لا برودة أجساد الشهداء ، و لم تقف في المقبرة لتودع حبيبا لك أكثر من مرة في اليوم أو الأسبوع لتصبح المحصلة في نهاية العام ، عشرة أحباب و جار و صديق و عشرون من المعارف و الأصدقاء!
لا يمكنك أن تكون مثلي لأنك لم تترك ديارك مجبراً ، و لم تودّع بيتك مدمراً ،و لا حيّك من سُكّانه خاوياً ، و لا أهلك و لا قبر حبيبك مكرهاً إلى غير موعد معلوم للعودة !
لا يمكنك لأنك لم تشغل بالك بمعارفك و أبناء بلدك الذين يقطنون المخيمات، و لم يؤرقك طيف صديقك الذي غاب عنك في غياهب السجون، لا تعرف عنه شيئا سوى أنه يُعذَّب و ينتظر موته، أو أنه قد مات أصلاً و لا زلت أنت تنتظره على أمل اللقاء!
لا يمكنك لأنك لم تغرق في دوامة المستقبل المجهول، و لم تنقطع عن دراستك لسنوات، و لم تتخبط بين جدران الخيارات الضيقة المتاحة أمامك من دراسة أو عمل أو بناء أسرة أو ما إلى هنالك من أمور الحياة التي تسير أنت فيها لا تأبه لشيء من ذلك !
لا يمكنك أن تكون مثلي لأني لا أنظر بعيني "أنا" و لا أفكر بعقلي " أنا" و لا أتطلع إلى مستقبلي " أنا" ، إنما أنظر بعين كل رجل قاوم الظلم و ناصر العدل، و أفكر بعقل كل واحد منهم ومعاناته كما لو كان هو أنا و أنا هو ، و أتطلع إلى مستقبل مشرق من درعا إلى دمشق إلى الغوطتين و حمص و القلمون ، مرورا بحماة و إدلب و حلب و وصولاً إلى الرقة و دير الزور و كل بقعة حوت أحراراً في هذا العالم الأسير.
قد تقول لي: ألا يجب أن تتأقلم مع الحياة من حولك إذا كنت مختلفا ؟
أقول : بلى يجب أن أتأقلم... لكن ليس مع ما يراه من حولي أنّه حياة، بل مع ما عرفناه في تلك السنوات عن حقيقة الحياة ، عن حقيقة أنّها خدّاعة تخدع الكثيرين بالأموال و المناصب و المفاتن بسرعة و غرابة أكبر بكثير مما يخطر على بال ، عن حقيقة أنها قصيرة جداً بقدر ما تبدو طويلة، و أنّ نهايتها قريبة بقدر ما تبدو بعيدة ، و أنّها لا تستحق من العناء شيئاً سوى ما يُوصلك إلى ما سبقك به الشهداء، و أنّها لا تحتاج من التَّمتُّع بزينتها سوى ما يزيح الهم عن صدرِ صاحبه ليبدأ العمل من جديد ، و أنها فرصة لا تتكرر، إما أن تبذل لأجلها كل وسعك فتصنع فيها نصرك و تبني مجدك و تنتقم من أعدائك، أو أنك تنتظرها لِتَمُرّ من أمامك فتنظر إلى غيرك كيف يأخذها منك إليه ،ثم تجد نفسك فجأة فقدتها و طوتك بترابها وصرت في عداد الموتى!
نعم نحن مختلفون فعلا و يسعدنا أحيانا أننا كذلك !
و الحقيقة أننا لا نلومكم و لا نريد أن تعيشوا ما عشناه و لا أن نقحمكم فيما لا ذنب لكم فيه ، و لكن بالمقابل لا تلوموننا لأننا مختلفون فليس من ذنبنا أيضاً أنَّ الله قدر أن نكون من صنف الغرباء في هذه الحياة.
لا نريد تعزية و لا مواساة ، و لا حزنا و لا شفقة ، فعزاؤنا أن المختلفين هم من يصنعون الفارق دوما ، و إن لم يُكتب لنا أن نصنع في هذه الحياة فارقا فنرجوا منه عز وجلّ أن يجعله لنا هناك في يوم الحساب ، و أن يجعلنا حينها - كما جعلنا في الدنيا - من المختلفين الذين يدخلون الجنة بغير حساب و لا عذاب...و ما ذلك على الله بعزيز !
هذه إجابتي "العابرة" فهل تراك فهمتني يا صديق؟!
Mohammad Nour Altenawi
المصدر: موقع صدى المجتمع المدني