لسنا فوق أحد..
ولدت في هذا المستنقع مثل البقيّة. كنت أصل المدرسة دائمًا بعد رنين الجرس الثّاني وغالبًا بعد الإصطفاف، لم أكن أعتبر كلمات المدير في كلّ الصباحات سوى اقتباسات سريعة من كتب التنمية البشرية التي لم أبني معها علاقة جيّدة حتّى اليوم.
كان هذا يحدث في أيّام الصيف الفظّة، وربما كان هذا السبب الذي خلق عداوة بيني وبين الصّيف، ماذا يعني أن يتحمّص رأسي في كلّ صباح؟ ماذا يعني أن أدخل الصّف مستاءة دون أن تدخل رأسي كلمة واحدة من الخطاب الصباحي؟ لذا كان الشّتاء هو المنقذ، لا كلام لا داعي له، لا إصطفاف .. ولا مواجهات بين الرئيس والمرؤوس.
في أيّامنا لم تكن كلمة التنمّر مألوفة، ولم تكن منتشرة أو معروفة، لكن الفعل كان موجودًا بالطّبع، كان الأولاد يضعون طالب ما في رؤوسهم وهيهات أن يتركونه يكمل يومه بهدوء وراحة، في كلّ مرحلة طالب ما، ضعيف، لم يتعلم كيف يواجه، لم يتمرّن على ذلك، كان الضحية، ضحية التربية السيئة، أو عدم التربية أساسًا.
بعد يوم طويل، عدت إلى البيت أحدث أمي عن قصّة كنت أظن حينها أنني واحدة من أبطالها، كنت مسرورة جدًّا باشتراكي في تلك المؤامرة، حيث اجتمعنا في الصّف واتفقنا أننا لن نقترب من تلك الفتاة، لن نتواصل معها، لأسباب تخصّ الشكل والتحصيل الدراسي المنخفض، وهكذا حتّى انطوت الفتاة في الزاوية، في المقعد الأخير، وحدها مثل سائح في بلد غريب.
أقامت الدنيا لم تقعدها، ارتفع صوتها، صارت تتمتم بكلمات غير مفهومة، قاطعتني طوال اليوم، وبعد أن هدأ الجو، أخبرتني أنها ووالدي ليسا من هذا الصّنف، وأنني ينبغي أن أستغل طلاقة لساني بالدّفاع عمّن لا يستطيع الدّفاع عن نفسه، لأنني سأظلّ ألتقي بأشخاص هكذا، لا يستطيعون ردّ الأذى والإهانة.
لذا أستغرب اليوم من كلّ الذين يستخدمون التنمّر كأسلوب حياة، في المدرسة والشارع، ومواقع التّواصل الإجتماعي، والأحاديث العابرة، والجلسات.
أستغرب من الذين لا وظيفة لهم سوى الإنتقاد لمجرد التلذذ، وإبراز العضلات، من الذين يستغلّون صمت الآخرين وضعفهم، من الذين يستخدمون عبارات جارحة لا تضف شيئًا لهم، بل تترك آثار سلبيّة على الذين يتخدّرون حين تدخلهم، أستغرب من أننا ندخل الجامعات ونصل إلى أعلى المراكز، دون أن نملك ثقافة الحديث، لكنها الشهادات لا تصنع من النّاس قلوبًا رحيمة وطريّة، نتسابق من منّا سيكون الأشد سخرية من الآخر دون أن نتوقّف لخمس ثوان ندرك فيها أننا لسنا فوق أحد، أننا جميعًا بشر لكن ظروفنا فقط هي من تختلف.
نجوان مصطفى
المصدر: موقع صدى المجتمع المدني