الحنين إلى وطنٍ منكوب
أربع سنوات من الغربة ولم أكن أسمح لنفسي بالاعتراف، لا.. أنا لا أشعر بالحنين، ولن أعود لوطن لا ينمو ويتكاثر فيه سوى الموت والظلم.
اسمي شادن. عمري ستة وعشرون عاما. كنت أعيش فيما مضى في سوريا، يومها كان لي وطن ومنزل وعائلة!
زارتنا الحرب، وجردتني من كل شيء حتى من نفسي.
قتل النظام أمي وأبي وأختي خلال القصف سنة 2014 في ريف إدلب. التحق بعدها أخي مصطفى (19 عام) بأحد الفصائل الموجودة في المنطقة. بعدها تغير أخي واختفى، وبقيت وحدي أندب كل شيء واقفة على الأطلال.
بعد سنة ونصف من المأساة التي عصفت بي، قررت اللجوء مع خالي وزوجته إلى ألمانيا، كحال العديد من السوريين. سار كل شيء كما خططنا له. وبالفعل بعد رحلة طويلة وصلنا، وبعد معاملات عديدة استقرينا. بدأت أتعلم اللغة الألمانية وأبحث عن أصدقاء جدد.
إلا أني لم أكن سعيدة أو مطمئنة، ما مررت به جعلني مريضة دائمة، أو سجينة لعقد الحرب والدمار. مرت بنا الأيام وكان كل شيء يسير بشكل جيد إلا أني بقيت تعيسة. أعيش أيامي لأنتهي منها، لتمضي. كنت دائما أردد لنفسي لن أعود، لن أحن، أنا لا أنتمي ولا أشتاق، إلى أن أتى اليوم الذي جردني من كذبي على نفسي. الحقيقة أني غير قادرة على الصمود أكثر، اكتشفت جرح قلبي وأخيرا، بينما كنت أحاول جمع شتاته. أنا اليوم نادمة جدا على سفري، ولا أعلم السبب. هذا الشعور ينهش روحي، ولكن ما معنى الندم؟ كيف يمكننا أن نندم على قرارات أجبرنا أن نقدم عليها بكل قوة وإصرار، بأنياب حادة كانت ستفترس كل معيق. كيف لنا بعد كل هذا أن نندم!
خجلون نحن بقرارات واقعية جدا. خجلون بكسور أرواحنا وضياعنا. والآن نحن عالقون هنا، وسط مكان لا ننتمي له، في دوامة من البشر والروتين والحسابات. ماذا نريد؟ لماذا نندم ونسأم؟ كيف نعيش؟ هذه الأرض الغريبة ليست لنا وهذا الهواء ليس خاصتنا فكيف نستمر؟
لا يمكننا أن نشرح تلك المعادلات الشعورية، ولكننا نراها، نشعر بها ونعلم جوابها، ورغم ذلك عاجزون. عاجزون عن بلوغ الجواب الشافي، تلك الكيمياء التائهة بين اللامبالاة والغياب.
شتات وترابط ضعيف يظهر على كلماتنا وأحاسيسنا. وجوه باردة لنقابلها كل يوم في طريقنا، ولعلنا لو عدنا لوطن الحرب خاصتنا لعجزنا عن إيجاد مقصدنا!
أهكذا يشعر المغتربون؟ أهذا ما تعنيه الغربة والفقدان والخسارة؟ إنه شيء لا يؤلم ظاهريا ولكنه يدمرنا في كل نفس، مع كل خسارة مررنا بها.
هذا القلب لم تكسره الوفيات والغيابات والخسارات فحسب، هذا القلب يشحذ الشعور بالاحتواء، بالحنان والأسرية.
خائفون، نحن السوريون في كل يوم خائفون. نموت بأشكال عديدة حتى أصبحنا نتمنى الموت بسلام، وفي قرارة أنفسنا حقا خائفون. بتنا لا نثق بالحياة، نصنع وعود ضبابية تتلاشى في الساعة القادمة.
ثقة تتزعزع في كل ثانية. قرار يطيح، وكذبة تكبر. سر يقبع لنا تحت الوسائد. دموع تأبى الخروج، كلمة “وطن” تخنق حناجرنا وذكراه تستوطن وتقوى. وجوهنا هزيلة، وصرختنا لا تجد المكان المناسب لتخرج، وقلبنا كما هو.. مجروح.
الكاتبة منى بكور
اللوحة عمل فني للفنانة السورية علياء أبو خضور
المصدر: Women Now For Development