البحث عن وطن
غيوم وزخات مطر .... وشوارع مليئة بالناس يذهبون ويجيئون ..فنجان قهوة على شرفة يتصاعد من بخاره حاملا عبق الهال الى الفضاء الرحب يحدث الأفق مع ترانيم فيروزية ساحرة , ان لا اجمل ولا أروع من سورية
قطرات الغيث تبلل وريقات الياسمين وقد تساقط بعضها وملأ الازقة القديمة , اسمع وشوشتها وكأنني فهمت منها شيئا (نحن من تغنى بها عمر الفرا ونزار وعشاق الشعر في حديثهم عن ياسمين دمشق ) ضحكات الأطفال الصباحية في صباحتاهم المدرسية الحميمة تفتح افق السعادة لكل محزون وتعمق الامل في مستقبلهم الجميل
فهذا اخ يمسك بيد اخته الصغرى ليقطع الشارع . ومسن يحمل بين يديه ارغفة الخبز الطازج التي تفوح منها رائحة القمح , وشرطي المرور ينظم السير ويهدئ من سرعة السيارات حفاظا على السلامة , ومحلات الخضار والفواكه تترجم كرم هذه الأرض وجودها بالوان ومذاق سبحان خالقه
ام تدندن بحنان لطفلها ( يالله تنام يالله تنام لهديلك طير الحمام ) كي يغفو بحضنها الدافئ ,
صبية جميلة تبتسم والامل يملأ عينيها حين يهمس خطيبها لها قائلا : قريبا سنبني بيتا جميلا ونحتفل بزفافنا مع كل الأصدقاء
وفلاح يتفقد مواسمه وفي عينيه يحمل الف حلم وينسى ملايين قطرات العرق وزفرات التعب ..( من هذا الموسم سأزوج ابني واصبح بعدها جدا ما اكرمك يا الله )
هذه الأجواء كنت ارقبها كل صباح بقلب مليء بالتراتيل والدعاء وبعيون لا تبصر الا السعادة والحب في القلوب , كلما ذهبت صباحا الى مدرستي التي اعمل بها كان لسان حالي يقول : اللهم احفظ هذا البلد وأهله من كل سوء وشر لم ار في حياتي اجمل منك يا وطني
وفي لحظة مخيفة وفي يوم من أيام 2011 شعرت ان كل شيء فيي يبكي . قلبي – عيني – قلمي – حتى سمائي وارضي وكأن القيامة قامت
فجأة خيم حزن رهيب على سماء سوريا واشتعلت حرب لا هوادة فيها كنت عائدة من معهدي بعد الظهر وفتحت المذياع لاستمع لأغنية تريح اعصابي بعد عناء يوم كامل ,فسمعت ما لم يكن بالحسبان , يا الهي - ارجوك ربي ان يكون هذا وهما – كذبا – هل من المعقول ان يدخل مجهولون الى بلدنا ويخربون فيها شعرت بقشعريرة تنتاب كل شراييني وارتجف قلبي خوفا على كل حبة تراب في هذا الوطن
بدأت الحرب وبدات الالام وكأنها بقعة حزن في بحيرة تتسع وتتسع وتتسع حتى اقتلعت هذه الحرب كل امالنا واحلامنا من الجذور
لم تعد الام تهدي ولم يعد الياسمين يزهر سافرت كل الأشياء الجميلة كطيور السنونو في أيام البرد
رحل الناس من قراهم المعطاءة وترك الخطيب خطيبته وسافر الى الجنة ولبست هي ثوب الحداد الى ان تلتقيه وكانت الصدمة
تهدم ذلك البيت الذي كانا يبنيانه بأحلامهما وتبعثرت ارغفة الخبز على ارصفة الموت ولم يتذوقها ذلك الرجل المسن – تناثرت الحقائب المدرسية واشلاء الأطفال الا تلك اليدين الصغيرتين اللتين امسكتا ببعضهما فقد بقيتا هكذا ورحلتا الى عالم جميل لا حروب ولا اقتتال فيه وقال الطفل غدا ساخبر الله عن هذا الظلم
اما تلك الام المسكينة المفجوعة فقد بقيت تهدد لوسادة صغيرها بعد ان فقدته بحرب لا ترحم قائلة لكل من يخبرها بان طفلها طيرا من طيور الجنة : لا انت كذاب هاهو ابني معي بحضني وتبكي تارة وتضحك أخرى , مسكينة هي تعيش صدمة لم تترك فيها غير الذكريات والشفقة من الناس
فجأة تحول الجمال في بلدي الى اطلال وتشردت العائلات وفقدت اعز الناس لديها
ايمنا سرت في سوريا لم تعد ترى سوى الحزن والدمار والاسى ,والذكريات الجميلة التي خالطها الاسى , هنا ضحكنا وهنا لعبنا ومن هنا كنا نشتري ثياب العيد كل عام ,ولكن للأسف الشديد فقد رحلت الأعياد وهاجر الفرح الى امد غير معلوم
فقد طحنت الحرب قلوبنا وحطمت الأخضر واليابس و لم يكن الناس مهيئين لردود الأفعال الأخرى التي أصابتهم، من حزن ونوبات هلع ومشاكل في الذاكرة والتركيز انعكس ذلك على احوالهم الصحية والنفسية بشكل عام فقد عاش الناس في الخيام بعد ان تهدمت بيوتهم وفقدوا وظائفهم ودراسة أبنائهم كثيرا ما كان الناس يمضون أياما تحت الأشجار والبرد القارس يأكل اطرافهم والحر صيفا يكوي قلوبهم ووجوههم ويشعل جمرة ظمئهم , وكثيرا ما عانت النساء من تعب النزوح والتهجير والحل والترحال والولادة في الخيام التي أصبحت رمزا لمعاناتهم ولأمنهم في الوقت ذاته
كيف لشعب يحب الحياة فجأة ان يفقد كل معاني الحياة
اسر تهجرت من بيوتها وأخرى من بلادها وما عاد في الأرض شجر ولا بشر وكأن سعيرا انتشر فاحرق الأرض ومن عليها , اسر فقدت عزيزا وعاشت صدمة الفقد وعائلات بلا مأوى وفتيات حرمن من تعليمهن وتم تزويجهن بسن مبكرة فكانت المآسي الغير متوقعة لهن ,هذه التغيرات المؤلمة جعلت بعض الاثار تظهر على الكثير من الأشخاص فبعضهم أصيب بخدر انفعالي بعد تعرضه لصدمة، ومشاعر الضيق النفسي قد لا تظهر على الفور، إلا أنه عاجلا أو آجلا قد يصاب بردود أفعال جسدية ونفسية وتغيرات في السلوك، وقد يتضمن ذلك ضغوطا وامراضا نفسية تحتاج الى فترة علاجية قد تكون بعيدة الأمد
ومن هنا كان لا بد لنا ان ننطلق من جديد لان عبق الأرض وحب الوطن يسري في عروقنا وقد رضعنا الإخلاص من مائه و نهلنا من نبع طهره الخير الكثير لنكون له أوفياء ونقف في وجه الرياح العاتية التي عصفت به , فالوطن هو الروح والطهر والسماء والأرض والبداية والنهاية
رأيت العجب العجاب من أناس آلوا على انفسهم الا ان يعطوا بقدر ما اخذوا بل واكثر - فقد انبجس الماء من الصخر والامل من الألم , وكما نعلم جميعا ان النصر يولد من عمق الإصرار, والنجاح يولد من رحم المعاناة , هذا هو شعبنا وهؤلاء هم ابناؤنا , انه شعب عمل وعجن المستحيل ليخرج بالنجاح والتفوق وما ذلك بغريب على شعب حول الرصاصة الى أقلام , والصواريخ الى دراجات ومدافئ ها هو الأستاذ يعلم الطلاب في الخيمة ويخرج المتفوقين والأطباء والمهندسين وها هو السوري يداوي جراح أخيه ويشد من ازره ويقدم له الدعم ليتخطى ازمة الفقد والم النزوح وها هو الطالب السوري يتفوق على الكثيرين في دول العالم ويقدم الابتكارات ويحصد الجوائز والاوسمة وها هي المرأة تحقق المراتب الأولى في العالم وترفع اسم وطنها من أقصاه الى أقصاه عاليا فعلا يرحل كل شي ... كل شيء ويبقى الوطن
في ارض الخيام والفقر والنزوح تغيرت المعادلة اصبح الناس يبتكرون ويعملون مكونين هياكل ثقافية تقف وتفكر وتساند وتحول المستحيل الى امل وتزيل العقبات بالتحدي والحياة ومن الامل الذي كان اقوى من صوت المدافع وازيز الرصاص يخلق جيل لا يعرف المستحيل
نعدكم اننا لن ندفن احلامنا تحت طين الخيام بل سيكون لدينا وطن يتسع للجميع وطن يستطيع أن يمنحنا شعورا بإنسانيتنا فالأوطان لا تصنعها الجغرافيا ولا أسماءُ السلاطين بل تصنعها القلوب المعطاءة والعقول النيرة
وطن بحثنا عنه فوجدناه في قلوبنا مشعا معطاء عزيزا هكذا استطاع الناس رغم آلامهم ان يتعلموا اللغات ويعيدوا البناء , بناء الانسان والاوطان , ويرمموا الجراح ويساندوا بعضهم بعضا ليصلوا الى القمة في الرقي الأخلاقي والتعامل الإنساني , نعم انها سوريا انها التي قال عنها اندريه بارو مدير متحف اللوفر في باريس : ( على كل انسان يتحدث في العالم ان يقول لي وطنين , وطني الذي أعيش به .... وسورية )
فاعذرونا ان كنا نعشقها لأننا شربنا من مائها اكثر مما شربنا من ثدي امهاتنا ,
فهل وجدت الوطن ؟؟؟!!!
الوطن هو انت .......................
تحياتي لكم
أحلام الرشيد