نظرية "الضحية المُعرّفة": لماذا تعاطف الناس مع ريان بدلًا من ملايين السوريين؟
عقب حادثة وفاة الطفل المغربي ريان الذي سقط في البئر، استهجن كثيرون موجة التعاطف العالمية مع ريان وعائلته واستنكروا حجم التغطية الإعلامية الكبيرة التي حظي بها "مجرّد طفل" في مقابل موت أو على الأقلّ معاناة مئات الآلاف من الأطفال والملايين من البشر عمومًا من أحداث عنف أو من ظلم الديكتاتوريات أو حتى الإبادة الجماعية.
وفي بعض الأحيان لم يكن استهجانًا فقط، بل وصل إلى التقليل من حجم المصيبة التي حلّت بأهل الطفل، والسخرية من المتعاطفين ووصفهم بالازدواجية وبالإنسانية الكاذبة والمجتزأة.
في الحقيقة فإنّ التعاطف مع الطفل ريان هو الطبيعي بالنسبة للبشر، أما ما يشعر به المستهجنون فهو الشعور المناقض للطبيعة البشرية، وهذا ما يُعرف بـ "تأثير الضحيّة المُعرّفة" The identifiable victim effect وقد أجرى علماء الاجتماع والنفس والاقتصاد والبيولوجيا مئات الأبحاث لدراسة هذه الظاهرة، بل وحتّى للاستفادة منها في إدارة الجماهير.
و"أثر الضحيّة المُعَرّفة" يقصد بها: ميل الناس لتقديم مساعدة أكبر عندما يُشاهدون معاناة لشخص محدّد يمكن التعرّف إليه، وذلك مقارنةً بمجموعة كبيرة أو غير واضحة المعالم بالرغم من أنها تعاني نفس المعاناة.
عندما يكون الواحد أكثر من الكثير
لنقارن بين الخبرين الآتيين؛ الأول يقول:
يعاني 18 مليون طفل في أفريقيا من المجاعة ويموت منهم سنويًا ما يزيد على 10 في المئة في حين يُحتمل أن يعيش 15 في المئة منهم بإعاقات دائمة بسبب سوء التغذية، أمّا متوسّط العمر المتوقّع لهم فلا يزيد على 48 سنة.
والثاني: تسبّب نقص الغذاء في إصابة يوسف بضمور في الغدة الدرقية ممّا أدى إلى مشكلات في النمو، وإنْ استمرّ على هذه الحال فقد يقضي بقية عمره دون القدرة على الحركة.
ولنُجرِ اختبارًا سريعًا للقارئ إن كان قد لاحظ في أثناء قراءة الخبرين أيّ منهما أشعره بالحزن أكثر وأحس بأنه يجب أن يساعده، أو على الأقلّ أن ينشر قصّته؟ وأكثر من ذلك، بعد وصولنا إلى هذه النقطة ودون الرجوع إلى الأعلى، ماذا علق بذاكرة القارئ من الخبرين؟
في العموم، معظم القرّاء سيتذكّرون قصّة يوسف أكثر من قصّة الـ18 مليون طفل، رغم أنّ المعلومات المرفقة بقصّة الملايين هي معلومات واضحة وذات دلالات إحصائية مهمّة، لكن هناك اختلاف بارز وهو أنّ قصّة يوسف تدلّ على شخص واحد معرّف باسمه وبنوع مرضه وأثره الخطير عليه مباشرة، في حين أن ملايين الأطفال السابقين لا نعرف من هم بالتحديد وكذلك فإنّ تحديد نسبة الوفيات منهم تجعل الأمر مبهماً.
ثلاثة تفسيرات لظاهرة التعاطف مع الضحية المُعرّفة
بحسب المثال السابق وهو مشابه للأمثلة التي يطرحها الباحثون في دراساتهم لهذه الظاهرة، فإنّ التعرّف إلى الضحيّة المنفردة يجعل من السهل الارتباط بها والشعور بالتعاطف تجاهها نتيجة إحساسنا أنّنا نعرف بعضنا بعضا منذ زمن، في حين يكون من الصعب علينا أن نكوّن رابطًاً مع ملايين أو آلاف آخرين، كما أنّ الدماغ يسلك دومًا الطريق الأقصر والأسهل، فالأسهل هو التعامل مع اسم شخص محدّد أو صفته أو صورته، في حين يكون التعامل مع بيانات عددية وإحصائية أو نسب مئوية ورسوم بيانية أصعب ويتطلّب إدراكًا سريعًا للمفاهيم المجرّدة.
هذا التفسير يتماشى مع وجهٍ آخر لهذه الظاهرة، حيث وجدت الأبحاث أنّ الناس يمكن أن تُنزل عقوبات أشدّ بحقّ شخص واحد مُدان بتهمةٍ ما، ممّا ستنزله بحقّ مجموعة كاملة تشترك في نفس الذنب.
يطرح باحثون آخرون تفسيرًا آخر، يقول إنّ التعاطف مع الضحية المنفردة بدلًا من الضحايا المتعددين هو آلية دفاعية يقوم بها الدماغ لتجنيبنا الشعور المفرط بالألم، لأنّه لو كان يتعامل مع الألم الناتج عن المشاهد القاسية بشكل عددي بحت فيزداد بازدياد عدد الأشخاص وينقص بنقصانهم، فإنّ مشهد معاناة جماعية واحد كفيل بإهلاكنا.
المفاجئ في هذه الظاهرة أنّه لو عُرضت قصّتان الأولى عن معاناة شخص واحد والثانية عن معاناة شخصين، فإنّ الناس ستتعاطف مع صاحب القصّة الأولى بالرغم من أنّ القصّة الثانية لا تحوي سوى شخصين وهذا لن يكون فارقًا كبيرًا بالألم نتيجة مشاهدتنا له، وهذا يأخذنا للتفسير الثالث وهو أنّنا نتعاطف مع الشخص الذي يمكننا مساعدته بدرجة أكبر ممّا كنا لا نستطيع المساعدة، أي إنّ مساعدة شخص واحد أسهل من مساعدة شخصين بالتالي سنتعاطف مع الشخص الواحد.
التحيّز للجمال
يترافق مع الظاهرة السابقة ظاهرة أخرى لا تقلّ أهمية أو أثرًا، وهي "التحيّز للجمال"، حيث يميل البشر للتعاطف مع الضحية الأجمل، فقد أظهرت الدراسات أنّ الناس لا تتعاطف مع الضحية الأجمل فحسب، بل يميلون لإعطاء الشخص الأجمل صفات أخلاقيّة أفضل مثل الكرم والعدل، ولوحِظ أيضًا أنّ الأشخاص الأكثر جمالًا أقلّ عرضةً للإدانة من قبل هيئات المحلّفين في المحاكم الأميركية، بل أكثر من ذلك، فهم أكثر عرضةً للحصول على تخفيض العقوبات فيما بعد لو أدينوا.
بدمج الضاهرتين معًا نحصل على خلطة مثالية للتعاطف مع الضحية المنفردة الجميلة، إذ إنّه من غير الممكن أن يحظى آلاف البشر معًا على ميزة الانحياز للجمال.
تطبيقات ظاهرة الضحيّة المعرّفة
يُعدّ جمع التبرّعات التطبيق الأبرز، حيث تقوم الجمعيّات الإنسانية وجمعيات الرفق بالحيوان أو حماية البيئة بالتركيز على حالات فردية وإبرازها من أجل كسب تعاطف الجمهور وبالتالي جمع مبلغ أكبر من التبرّعات من أجل المشاريع التي تنتمي لها الحالة الفردية، لهذا فقد أطلق بعضهم على هذه الظاهرة ظاهرة "جيسيكا"، وهي طفلة تبلغ من العمر سنة ونصف سقطت في بئر في تكساس عام 1989 حيث انتشرت قصتها على وسائل الإعلام ممّا جذب مئات الآلاف من الدولارات من التبرعات من أجل المساهمة في جهود إنقاذها والذي حصل خلال يومين، وهذا بالضبط ما حصل في قصّة الطفل ريان، ليس فقط على مستوى الأفراد، بل أبدت عدّة دول استعدادها لإرسال فرق إنقاذ، بالرغم من أنّ نفس الدول والأشخاص لا تلقي بالًا لآلاف آخرين يعيشون في خيام أشبه بالعراء.
ونحن هنا لا ندعو إلى اتّخاذ وضعية الحياد تجاه القضايا المشابهة، إنّما نسرد التوصيف العلمي لهذه الظاهرة، لأنّ هذه الأحداث تكون بمنزلة فرصة لا تتكرّر لتسليط الضوء على قضايا تحتاج إلى دعم كبير من أجل حلّها.
الضحيّة المعرّفة في القضيّة السورية
قبل شهر انتشر مقطع فيديو لسيّدة سوريّة في أحد مخيّمات الشمال تطلب فيه نقلها من خيمة إلى بيت بسبب العاصفة الثلجية القاسية، فأطلق فريق ملهم التطوّعي حملةً لجمع التبرعات بهدف نقل سكان 100 خيمة هم كلّ سكان ذاك المخيم، وحقّقت الحملة هدفها بعد 36 ساعة، رافق الحملة موجة تعاطف كبيرة على المستوى السوري والعربي، ومن الغباء إيقاف الحملة في هذا الوقت، لذا مُدّدت الحملة لنقل 800 عائلة إلى المنازل، وقد ازداد التعاطف مع مشاهدة أثرها المباشر عندما انتقلت العائلات الأولى من الخيام إلى البيوت.
في نفس الوقت لا نرى تحرّكًا أو تعاطفًا بنفس المستوى عندما انتشرت تسريبات قيصر التي حوت 55 ألف صورة لمعتقلين فارقوا الحياة تحت التعذيب، حيث تحوي هذه الصور كلّ العوامل التي اقترحها العلماء لتفسير عدم التعاطف مع الكوارث الكبيرة، فالضحايا كثيرون ولا يحتمل عقل أيّ منّا تصوّر حجم العذاب الذي عانوا منه جميعًا، فنحاول سحب شريط التمرير للأسفل بسرعة عندما تصادفنا أي من تلك الصور، والضحايا مجهولون، فقد أُلصقت على جسم كلّ منهم ورقة تحمل رقمًا وفي الغالب كان هناك تمويه لمعالم الوجه، فلا اسم ولا صورة واضحة تجعلنا نرتبط بأيّة ضحية، ولا يوجد شخص منهم حي، فجميعهم قد فارقوا الحياة ومنذ زمن بعيد ولن يأتي التعاطف بأثر مباشر، وأخيرًا فإنّ المشهد برمّته ليس جميلًا أبدًا.
ممّا سبق نجد أنّه ليس من قلّة الأمانة أو الخداع أن يتمّ عرض قصة منفردة لشخص واحد من أجل الحصول على دعم لتغطية احتياجات مجموعة كبيرة من الناس الذين يخضعون لنفس المعاناة، حتى لو لم يخبر القائمون على الأمر الناس سواء المتبرّعون أو المستفيدون من التبرّعات وعلى رأسهم الشخص صاحب القصّة التي صُدّرت للإعلام، ويمكن على سبيل المثال اعتبار ما قام به من عرض قصّته للتداول جزءًا من واجبه تجاه شركائه في المعاناة
المصدر : تلفزيون سوريا