الحصبة من مرض منسي إلى وباء يهدد حياة الأطفال في شمال غربي سوريا
“كان خبر وفاتها كالصاعقة” هكذا عبّر “محمد صبري” من أهالي عفرين، عن صدمته بتلقي خبر وفاة طفلته قبل أيام بسبب إصابتها بالحصبة، لتكون ضحية ذلك المرض الذي عاد للانتشار في مناطق الشمال السوري أخيراً، ما دفع الحكومة السورية المؤقتة للمطالبة بتوخي الحذر من تحوّل الحصبة الى وباءٍ يُهدّد حياة الأطفال في مناطق شمال غربي سوريا.
في الخامس عشر من الشهر الحالي، أعلنت الحكومة المؤقتة، أن وزارة الصحة التابعة لها سجّلت وفاةً واحدة وأكثر من 30 إصابة بمرض الحصبة، في مدينتي الباب وعفرين بريف حلب، مع الاشتباه بوجود متلازمة الحصبة الألمانية الخلقية لطفلةٍ حديثة الولادة، خلال الأسابيع الماضية.
وحذّرت الحكومة المؤقتة، في بيانٍ عبر موقعها الرسمي، من تفشي المرض في مناطق شمال غربي سوريا، وتحوّله إلى وباء يحصد المزيد من الأرواح، مشيرةً الى أن غالبية المصابين هم أطفالٌ دون سن الخمس سنوات.
مدير البرامج في وزارة الصحة بالحكومة المؤقتة، الدكتور رامي كلزي، أوضح أنه “في كل عام يتم تسجيل إصابات بالحصبة، جميعها ترافقت بأعراض خفيفة وبمناطقَ متفرقة، لذلك لم تكن تشكل خطراً من منظور الصحة العامة، لكن العام الحالي شهد زيادة في الإصابات وكانت الأعراض متوسطة. ويعود السبب غالباً إلى ظهور طفرة في الفيروس المسبّب للحصبة، إلى جانب نقص التغطية باللقاحات خلال الفترة السابقة، وعدم وعي الأهالي بأهمية اللقاح”.
وأضاف كلزي ” من المفترض أن الحصبة من الأمراض التي غابت أو تحت السيطرة بسبب اللقاحات، لذلك عند ظهور أي عنقود من الإصابات (عدد محدّد من الإصابات ضمن منطقة جغرافية معينة) أو ظهور وفاة من تلك الحالات، يستوجب إجراء حملة تلقيح عاجلة، حتى يتم احتواء الأمر من بدايته قبل أن يتحوّل وباء، وبالتالي على الناس الإسراع إلى تلقيح أطفالهم”.
“الطفلة سَعدت” ضحية الحصبة
الطفلة سَعدت صبري (12 سنة) من أهالي عفرين، فارقت الحياة يوم الجمعة الماضية، لتكون حالة الوفاة الوحيدة التي سُجّلت بين عشرات الإصابات التي انتشرت أخيراً في الشمال السوري.
محمد صبري والد الطفلة “سَعدت”، تحدث عما حصل لابنته قائلاً: “في الثامن من كانون الثاني الحالي، بدأت طفلتي بالتقيؤ، مع شعورها ببعض الحرارة وآلامٍ في جسدها، فقمت بإسعافها إلى المستشفى، وأخبرنا الطبيب من خلال المعاينة الأولية أنها تعاني من الجدري، حيث ظهرت بعض الحبات الصغيرة على جسدها، لذا تم وضعها تحت المراقبة في المشفى”.
يضيف صبري “بعد إجراء تحليل تبيّن أنها تعاني من إصابة مزدوجة بفيروسي (الجدري والحصبة)، وفي اليوم الثالث من الإصابة، اشتكت سَعدت من انتفاخاتٍ في وجهها خاصة في العينين، وانتشرت الحبوب في كامل جسدها، وأصبحت حرارتها ترتفع”.
في اليومين الرابع والخامس بدأت سَعدت تستجيب للأدوية التي أخذتها وتحسّنت صحتها قليلاً، وقبل يومٍ من وفاتها تحدث الأطباء عن استقرار وضعها الصحي وإمكانية تعافيها خلال 48 ساعة، لكن في اليوم التالي بتاريخ الرابع عشر من الشهر الحالي، تدهورت حالتها مجدداً.
وتابع صبري قائلاً: “عانت ابنتي من ضيقٍ في التنفس وارتفاعٍ في الحرارة، ليتم وضعها تحت الأوكسجين، لكن بعد دقائق تفاجأنا أنها غابت عن الوعي، رغم أنها كانت قبل ساعتين تأكل بشكلٍ طبيعي وتلعب بالهاتف المحمول. صرخنا للممرضة والطبيب، ليكتشفا أنها فارقت الحياة، علماً أنها تلقت اللقاح ضد الحصبة”.
فوكس حلب تواصل مع رئيس اللجنة التقنية في فريق لقاح سوريا، الدكتور ياسر نجيب، للاستفسار عن سبب وفاة الطفلة “سَعدت صبري”، ليؤكد أن مرض الحصبة تسبّب بحدوث التهاباتٍ في الدماغ لديها، نتيجة ارتفاع حرارتها بشكلٍ كبير ما أدى لوفاتها، علماً أنه كلما كان عمر الطفل المصاب أكبر، تكون الأعراض أشدّ، مشيراً إلى أنها “ليست حالة الوفاة الأولى بالحصبة، بل شهد الشمال السوري العديد من حالات الوفاة خلال الأعوام الماضية”.
أم أياد من قاطني مدينة الباب، لاحظت قبل أيام معاناة ابنها البالغ من العمر عشر سنوات، من حكّة شديدة في البطن والظهر والأذنين، إضافةً إلى ارتفاع حرارة جسده، فسارعت لنقله إلى أقرب نقطة طبية، ليكتشف الأطباء إصابته بالحصبة.
تقول أم أياد: “نحن من أهالي الغوطة وتهجّرنا ونزحنا أكثر من مرة، عدم الإستقرار منعني من إعطاء لقاح الحصبة لابني ما أدى لإصابته، لذلك قمت بعزله في غرفةٍ لوحده خوفاً من إصابة باقي أخوته الصغار، وهذا أثر على نفسيته، حيث شعر أنه شخصٌ منبوذ، وكل يوم يطلب الخروج من غرفته للعب مع أخوته، لكني أمنعه وأحاول دوماً رفع معنوياته ريثما يتجاوز هذه المحنة”.
آخر لقاح منذ أربع سنوات
لم يتلقَ أطفال الشمال السوري لقاح الحصبة منذ أربع سنوات، إذ كانت آخر حملة لقاح في عام 2018، واستهدفت الأطفال من 6 أشهر الى 14 سنة.
وجرى إطلاق حملة لقاح ضد الحصبة عام 2018، بعد تضاعف أعداد الإصابات في ذلك العام، وبلغت 17 ألف إصابة في شمال غربي سوريا، بعد أن كانت تسعة آلاف عام 2017.
وأفاد رئيس اللجنة التقنية في فريق لقاح سوريا، أن “حملة 2018 أدّت إلى انخفاض أعداد الاصابات بشكلٍ كبير، وأصبحت بالعشرات فقط في السنوات التالية، لكن عدم إطلاق حملات لقاح بعد 2018، زاد أعداد الأطفال غير الملقحين، ما تسبّب في ظهور حالات حصبة جديدة ولاسيما في مدينة الباب، وبالتالي فإن أي أطفال مصابين بالحصبة يأتون من مناطق النظام، أو رأس العين وتل أبيض، يتسببون بالعدوى لغير الملقحين”.
وعانت منطقتي تل أبيض بريف الرقة، ورأس العين بريف الحسكة خلال الأشهر الماضية، من انتشار إصابات الحصبة فيها، ما دفع فريق لقاح سوريا إلى إطلاق حملة لقاح في تشرين الثاني الماضي، استهدفت 92 ألف طفل من عمر ستة أشهر حتى عشر سنوات.
وأكد الدكتور ياسر نجيب أن “دراسة الوضع المناعي للأطفال في مختلف مناطق الشمال السوري، تبيّن أن الوضع الوبائي للحصبة كان مقبولاً حتى قبل شهر، إلى أن انتشرت إصابات الحصبة أخيراً في الباب. يختلف الوضع حتى من حيٍ لآخر، وهذا يرتبط بمدى قناعة الأهل بأهمية اللقاح، لذلك نستعد لتنفيذ حملة ضد الحصبة في الباب خلال أسبوع”.
وتابع نجيب قائلاً: “رغم ظهور إصابات حصبة في عفرين، لكن الوضع ما يزال مقبولاً مقارنةً بالباب، كما ظهرت بعض الإصابات المتفرقة في باقي المناطق، لذلك نقوم بعملية مراقبة وتقييم في مختلف المدن والبلدات شمال غربي سوريا، حيث أن الوضع مستقر حالياً، لكن قد ينتقل الوباء إلى باقي المناطق إذا كان الوضع المناعي للأطفال ضعيفاً”.
لماذا اللقاح ليس كل عام؟!
اعتاد الأهالي منذ عقودٍ من الزمن، على أن تأتي فرق جوّالة الى المدارس لتلقيح أبنائهم كل عام ضد الحصبة، وهذا كان يُجنّب أطفالهم الإصابة بذلك المرض الذي غدا مرضاً منسياً.
ومع انتشار إصابات الحصبة في الشمال السوري، تساءل كثير من السكان، لماذا لا تأتي فرق اللقاح الى البيوت للتلقيح ضد الحصبة، كما يحدث عند حملات شلل الأطفال، ولماذا لا تُطلق حملة اللقاح كل عام، عوضاً عن أربع سنوات؟!.
رئيس اللجنة التقنية في فريق لقاح سوريا، الدكتور ياسر نجيب، أجاب عن ذلك قائلاً: “هناك حسابات نجريها من الميدان، عبر فرق جوّالة مهمتها التعرّف على نسب غير الملقحين، ومن خلال هذه النسب يتم حساب الفترة التي يجب فيها إطلاق حملة ضد الحصبة قبل أن تتحوّل إلى وباء، وكان يُفترض إطلاق الحملة في آذار المقبل، لكنها قد تتأخر أكثر، بسبب عدم توفر مستلزمات الحملة، لذلك نعمل على تقوية برنامج التلقيح الروتيني لمنع ظهور حالات حصبة”.
وحول سبب عدم قدوم فرق اللقاح الى البيوت للتلقيح ضد الحصبة، قال الدكتور نجيب: “حملة الحصبة تتم عبر الحقن، وبالتالي ليس هناك إمكانية لتنفيذها عبر فرقٍ جوّالة الى المنازل، كحملة شلل الأطفال التي تُعطى جرعاته بشكلٍ فموي، لذلك عند إطلاق حملة الحصبة نفتتح مراكز ثابتة، كما أن هناك فرق جوّالة تتنقّل من مدينةٍ إلى أخرى، وتبقى على أطرافها ليوم أو عدة أيام حسب عدد الأطفال غير الملقحين”.
لقاح الحصبة عالمياً يُعطي على جرعتين، الأولى في عمر السنة، والجرعة الثانية في عمر السنة ونصف السنة، وهو لقاح ثلاثي يساهم في الوقاية من أمراض الحصبة والحصبة الألمانية والنكاف (أبو كعب).
وأشار الدكتور ياسر نجيب، إلى أنه “اذا لم يكن هناك وباء حصبة في بلدٍ ما، يتم إعطاء لقاح الحصبة في عمر السنة، لأن مناعة الطفل تصبح أقوى في هذا العمر، أما في بلدنا الذي فيه عدم استقرار وانتشار للوباء، نضطر لإعطاء الجرعات للأطفال منذ عمر ستة أشهر، حيث أن وجود إصابات حصبة، قد يُعرّض الأطفال غير الملقحين بعد في عمر ما بين ستة أشهر وسنة للإصابة”.
“الحصبة” فيروس سريع الإنتشار
يُعرف عن مرض الحصبة بأنه مرض فيروسي، ينتقل عن طريق الاتصال المباشر أو من خلال الهواء، ومن أعراضه السعال والزكام وتهيّج العينيّن واحمرارهما، وأوجاع في الحلق وارتفاع درجة الحرارة، وطفح على شكل بقعٍ حمراء تظهر على الجلد.
ويرى مدير البرامج في وزارة الصحة بالحكومة المؤقتة، الدكتور رامي كلزي، أنه “رغم انتشار إصابات الحصبة، فإن مفتاح الحل لمحاربة هذا المرض بأيدي الأهالي أنفسهم، فإن امتلاكهم الوعي بأهمية اللقاح، ومبادرتهم لإعطائه لأطفالهم في الموعد المحدد، كفيلٌ بحمايتهم من الإصابة ونقل العدوى، وبالتالي احتواء المرض والقضاء عليه”.
وأشار كلزي الى أن “اللقاح يقي من الإصابة بمرض الحصبة، وفي حال الإصابة ستكون الأعراض خفيفة، إلا إذا كان المصاب ضعيف المناعة أو يعاني من سوء التغذية أو من أمراضٍ أخرى، علماً أن هذا المرض يصيب الأطفال غالباً، ونادراً ما يصيب البالغين وكبار السن، أما العلاج يكون عَرضياً، أي عبر معالجة الأعراض من خلال المسكنات وخافضات الحرارة”.
والحصبة مرض شديد العدوى، إذ أن أي طفل لم يطعّم باللقاح، واختلط مع طفل مصاب بالحصبة فإنه يُصاب فوراً، وكل طفل مصاب قد ينقل العدوى إلى 16 طفلاً، أما الأمراض الأخرى فإن المصاب ينقل العدوى إلى طفل أو اثنين فقط.
تأخر حملات اللقاح وعدم الاستقرار، إضافة لقلة الوعي بأهميته، يزيد من خطورة الأمراض التي بدأت بالعودة عند جيل جديد من الأطفال لم يتلقّ اللقاح المناسب وفق جدول زمني مخصص لحمايته، ما يستدعي تنسيقاً وحملات مناصرة وتوعية لحماية الأطفال قبل أن تتحول هذه الأمراض إلى أوبئة يصعب السيطرة عليها.
المصدر : فوكس حلب