الكتابة نوع من الترجمة والنص الذي يجب ترجمته هو أنت
ريم زيدان
مما لا شك فيه أن الترجمة هي أصل التعبير عما يجول داخل النفس البشرية قبل أن تكون محض نقل ثقافي وعلمي بين مختلف شعوب الأرض، فهي المفتاح الأول القادر على تأويل محتوى فكري مجرد إلى محتوى آخر مصور وذي شأن ، فهي نمط إنساني بحت في التأويل والحاجة إليها غريزية فطرية وُجد عليها الإنسان بطبيعة الحال ،
فكلمة « ترجمة « لا تعني حرفيًا التحويل من لغة إلى أخرى فقط وإنما هي تجسيد حي وحقيقي للمضمون الفكري الأزلي والمتجدد لدى البشر .
يبدو بوضوح للناظر في تاريخ الترجمة بمختلف ميادينها أنها مفتاح الإثراء المعرفي التبادلي بين مختلف شعوب وألسنة العالم ، فمن المعروف أن لكل لغة ثقافة ولكل ثقافة مخزونها الذهبي من المعارف والأفكار التي لايمكن الإستغناء عنها أو العيش بمعزل عنها في مضمار العولمة والتطور الحضاري المتسارع بلا توقف ، وإن كانت بعض الشعوب قديمًا غير مهتمة بأمر الترجمة إلى هذا الحد ، فإن ذلك لم يؤثر كثيرًا على عطاءها ولكنه أضرها في الإطار الذي ينص أن كل تقصير يعني بالتأكيد تأخرًا وحرمانًا من اكتساب الخبرات الجديدة التي تساهم بشكل أساسي في رفع مستواه الحضاري .
ولما كان من المستحيل العيش بمعزل عن بقية الشعوب لمئات الأسباب وتحت مئات الحجج والأدلة التي تثبت أن شرق الأرض نهل من مغربها والعكس صحيح وأن كلٌ قد نهل من علم الآخر بفضل الترجمة التي لابديل عنها إلا أمرًا واحدًا فقط هو تعلم و إتقان كل لغات العالم وهذا أمر يستحيل تصوره حقيقة ، من هنا يأتي الحديث عن دور الترجمة في طلب العلم وعمارة الأرض .
مسار تاريخي طويل :
من الجدير بالذكر في هذا الصدد أن حركة الترجمة تعود إلى صدر الإسلام ، فبعد نزول القرآن الكريم بلهجة قريش العربية العدنانية الشمالية وبعد توطد دولة الخلافة تلاشت تقريبًا جميع لهجات أهل الجزيرة وأصبحت هي اللغة العربية و فيما بعد عندما اتسعت دولة الخلافة التي دخلت فيها أمم كثيرة ذات حضارات ولغات بها كم كبير من المعرفة كان لابد من ترجمة الدواوين إلى اللغة العربية كما حصل في عهد الخليفة عبد الملك بن مروان والتقت حينها في فترة قصيرة علوم الأمم وآدابها فتفجرت حركة ترجمة جارفة وكانت واضحة وضوح الشمس في عهد الدولة العباسية وسرعان ماتحولت إلى مؤسسة علمية يرعاها الخلفاء وينفقون عليها من أموال الدولة .
لا يخفى على أحد ما حصل بعد أن فتح المسلمون فارس والعراق والشام ومصر وكيف تأثروا بمدارس هذه البلاد التي كانت تحتضن حضارة اليونان وفكرهم ، فتزودوا بقسط معرفي منها لم يكونوا ليصلوا إليه لولا الترجمة ، فازدهرت أكثر فأكثر وظهرت مدارس ومراكز للترجمة والبحوث أشهرها مدرسة جنديسابور التي اشتهرت بدراسة وترجمة الطب والتشريح وفيها ترجمت مؤلفات اليونان في الطب إلى السريانية ومن ثم إلى العربية ، ومركز الحيرة حيث كان المترجمون ينقلون الطب واللغة والفلسفة من الإغريقية إلى العربية ، ومركز الرها ونصيبين حيث ترجمت علوم الرياضيات والموسيقى والعلوم الطبيعية ،
ولا ننسى كيف أمر أبو جعفر المنصور بترجمة كتاب السند هند في الفلك والحساب و كيف أنشأ هارون الرشيد دار الحكمة بعد أن كثر أعداد العلماء في بغداد ، لتكون بمثابة أكاديمية استقدم إليها مئات الكتب التي ترجمت ونقلت من آسيا والقسطنطينية وأرسل منها البعثات لاستحضار ما أمكن من شتى ألوان المعرفة وفيها تم ترجمة معظم أعمال أرسطو في الفلسفة ما أدى إلى ازدهار علم الكلام للرد على فلسفة الإغريق .
ومن المعروف أيضًا أن زيد بن ثابت رضي الله عنه تعلم السريانية في ستين يومًا وتعلم كذلك الفارسية والرومية ، والدافع الأكبر كان نشر الفتوحات الإسلامية ومحاججة الأمم والثقافات الناطقة بمختلف اللغات والغارقة بمختلف المعتقدات ، ومن بعدها نحو أخذ وعطاء فكري تزهو به الشعوب.
أحب المترجمين والمترجمات لقد وضعوا العالم في يدي
بعد أن أصبحت أمهات الكتب الهندية والفارسية والمصرية القديمة والإغريقية موجودة ومترجمة إلى العربية مضافًا إليه ما أبدعه علماء العرب المسلمون في نهضتهم وبخاصة ما بين القرنين الرابع والخامس الهجريين وما نتج عنهما من محتوى معرفي مكتوب ومصور وبُث من أقصى شرق الدولة الإسلامية في بغداد إلى أقصى غربها في الأندلس ومنه إلى شتى بقاع الأرض حيث نُهل منه نهلًا وبخاصة من حقول المعرفة المرتبطة باللغة العربية نفسها كالنحو والصرف والبلاغة والمرتبطة بالدين الإسلامي كعلوم القرآن والحديث والفقه وغيرها ، أضف إلى ذلك العلوم التي أنتجها العرب وكتبت بالعربية كطب العيون وطب الأمراض السارية والتشريح والعقاقير والنباتات وعلوم الحيوان والرياضيات وغيرها الكثير، نستطيع القول أن الجسر الأول والوحيد لمرور هذه المعارف من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب هو الترجمة ، التي قربت المسافات واختصرت الدروب وأمكنك بفضلها أن تتجول اليوم في ساحات روما القديمة وأن تدخل مخبرات بييروماري كوري وتسافر إلى أدغال شعوب أفريقيا وتقرأ أقدم وأولى ما خُط على قطع جلدية ومانقش على جدران الحضارات الأولى بين مغارب الأرض ومشارقها ومنه إلى جنوب الأرض وشمالها وأنت جالس في مكانك ، بفضل الترجمة
المصدر : مجلة أقلام